المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبدالاله الوصي على عرش العراق



ادارة الموقع
06-01-2010, 11:08 PM
يعتبر الملك علي ابن الشريف حسين آخر الملوك الهاشميين الذين حكموا الحجاز، وبهزيمته أمام ابن سعود انتهى الحكم الهاشمي هناك، وانتهى أفراد هذه الأسرة الى البحث عن ممالك يحكمونها او عن مناف ليعيشوا فيها.
وإذا كان اثنان من أبناء الحسين، هما عبدالله وفيصل، قد تعلما وصقلتهما التجارب، بما في ذلك تجربتهما حين أصبحا نائبين عن الحجاز في <<مجلس المبعوثان>>، والفترة الطويلة التي عاشاها في اسطنبول، فان الملك علي كان متواضع التعليم، قليل الاسفار والاحتكاك بالآخرين، وظل يعيش في رحاب أبيه وتحت ظلاله.
كان للملك علي ولد واحد هو عبد الإله، وكان له أربع بنات إحداهن الملكة عالية التي تزوجت الملك غازي وأنجبت له ولي عهده فيصل الثاني.
يقول الذين أرخوا للأمير عبد الإله انه لم ينتظم في سلك التعليم، ورغم انه قضى بضع سنوات في مدارس داخلية بمصر وانكلترا إلا أنه لم يواصل دراسته، وبالتالي لم يحصل على مؤهلات علمية. عاش في كنف جديه لأبيه وأمه، وكان ميالا للعزلة والانطواء وتعلق منذ وقت مبكر بالخيل. وباعتبار أنه تربى في جو غالبيته من النساء، فقد اكتسب بعض صفاتهن، وانعكس ذلك على سلوكه وتصرفاته، ويصل الأمر ببعض من كتبوا سيرته الى القول أنه كان أقرب الى التخنث!
حين طرح موضوع زواج غازي، ورشحت أخته عالية لتكون العروس رافقها الأمير عبد الإله من اسطنبول الى بغداد. ورغم أنه أصبح صهر الملك، علاوة على كونه ابن عمه، الا ان العلاقات بين الاثنين، غازي وعبد الإله، ظلت أقرب الى البرود الذي يصل حدود الجفاء، هذا عدا انه لم يسند اليه عمل رسمي حقيقي، إذ سمي موظفا في الخارجية الا انه لم يمارس عملا فعليا. ونظرا لصفاته الشخصية فقد بقي لفترة طويلة في الظل ومع الخيل، ولم يخرج من هذا الجو الا ببطء وبتحريض من أخته عالية، إذ كان وثيق الصلة بها ويكاشفها بالكثير مما يجول في خاطره.
تزوج عبد الآله، لأول مرة، قبل ان يصبح وصيا على العرش، وكانت هذه الزوجة مصرية جميلة وذات تربية حديثة، الامر الذي لم يرق لأغلب العائلة المالكة، خاصة الأم الوالدة، وحين أصبح وصيا على الملك فيصل أحب فتاة من عائلة الحيدري، ووقعت في هذه الاثناء ثورة رشيد عالي في أيار 1941، فأعطى عبد الإله عهدا لهذه الحبيبة ان يعلق اربعة من رجال هذه الثورة عند بوابة وزارة الدفاع، وكانت الحبيبة تطالبه ان يعجل بالوفاء بالعهد!
وظل عبد الإله من دون زواج فترة طويلة، مع ان علاقاته زادت واتسعت مع نساء من جنسيات متعددة، ويرى طه الهاشمي ان محاولات عديدة بذلت من أجل تزويجه واحدة من شقيقات الملك فاروق، ملك مصر، لكن هذه المحاولات لم تثمر، الى أن تزوج من هيام ابنة أمير ربيعة، وكانت من القلائل الذين نجوا من مذبحة قصر الرحاب في تموز 1958.
أشرنا الى الجفاء في العلاقة بين غازي وعبد الإله، ولعل جزءا من هذا الجفاء يعود الى طبيعة العلاقة بين الملك وزوجته، الامر الذي انعكس على علاقة الرجلين، خاصة وان عبد الإله كان يكن لأخته حبا استثنائيا. ولقد لعب هذا العامل دورا مهما في اغتيال الملك غازي، الذي اشترك في تدبيره ثلاثة: نوري السعيد والملكة عالية والامير عبد الإله، عن طريق وضع الخطة واختيار عناصر التنفيذ وتغطية آثار الجريمة...
وهكذا، وبترتيب متقن وسريع، أمكن تسمية عبد الإله وصيا على عرش فيصل الثاني. وإذا كان لمثل هذا الاختيار أسبابه ومبرراته بالنسبة للذين رتبوا هذه المؤامرة، إذ كانت عالية حاقدة على زوجها، لأنه أكره على الزواج بها، في الوقت الذي كان يميل الى نعمت إبنة ياسين الهاشمي، ولان عبد الإله كان طامحا لان يكون الرجل الاول في العراق، فان لنوري مصلحة لا تخفى، وهي ان يكون ذا دالة ونفوذ على شريكيه الآخرين، عالية وعبد الإله، باعتباره الاقوى والاكثر نفوذا وعلاقاته في السياسة العراقية واسعة ومتشعبة.
ما ان انتهت مراسيم تسمية عبد الآله وصيا على عرش العراق، حتى بدأ الدور الكبير والخطير للعراق ولعبد الإله، خاصة وان العالم كان يمر في مرحلة صعبة وهو يستعد لخوض غمار الحرب العالمية الثانية، وما تتطلبه من تحالفات ومعاهدات لتسهيل وجود القوات الاجنبية او مرورها الى ساحات القتال. وكان العراق ضمن الدول التي جرى عليها وحولها النزاع بين دول الحلفاء ودول المحور، نظرا لأهمية موقعه الجغرافي كونه عقدة المواصلات بين آسيا، خاصة الهند، وأوروبا. يضاف الى ذلك كونه الجار الأقرب الى إيران وتركيا وما تتمتع به هاتان الدولتان من موقع ودور، وبالتالي تنافس المعسكران على ان يكون لكل منهما تواجد فيهما. اما العامل الثالث المهم فهو وجود مخزون كبير للنفط، وبالتالي من يضع يده على هذه الثروة يكون في موقع أقوى من الآخر.
قدر عبد الإله غريزيا، وعن طريق بطانته المرتبطة بالانكليز، ان من يتحالف مع بريطانيا، ومن تقدره بريطانيا أكثر من غيره سوف يحظى بالموقع الاقوى والأهم. وهكذا بدأ الصراع منذ وقت مبكر بين نوري وعبد الإله على احتلال المركز الاول. وبهذه الطريقة انصرفت اهتمامات عبد الإله الى ترتيب علاقات مع الجيش، والى محاولة كسب المؤيدين والانصار في المؤسسة العسكرية. ورغم ان الانكليز بذلوا جهدا استثنائيا في دعمه، الا ان رجلهم الأول بقي نوري السعيد، نظرا لكفاءاته المتعددة وتجاربه الواسعة، ولذلك لجأ الانكليز الى الموازنة في العلاقة بين الاثنين.
ولان نوري أدرك قوة المؤسسة العسكرية، خاصة القادة الذين يمسكون بالأمور، او ما يطلق عليهم <<المربع الذهبي>>، واتضح ذلك منذ أن تمت تصفية بكر صدقي وأنصاره في الجيش، فانه قد بذل جهدا فائقا لتقوية علاقاته وتحالفاته مع المؤسسة العسكرية خاصة بعد ان أصبح لهذه المؤسسة دور سياسي في اختيار رئيس الوزراء او سحب الثقة منه.
كانت نظرة عبد الإله للانكليز كلها إعجاب وتقدير، وكان مستعدا للامتثال لكل ما يطلبون، ومع أنهم تخلوا عن وعودهم للهاشميين وخدعوهم، فان الانكليز استمروا يفرضون رأيهم على معظم الساسة العراقيين، وكان عبد الإله واحدا من هؤلاء، إذ كان يردد بفخر وبماهاة انه غير قادر على التخلي عن الانكليز، لانهم وحدهم الذين يقدرون على حمايته ورد خصومه عنه، خاصة بعد ان انكشف دوره في تصفية الملك غازي، وبداية ارتقائه درجات السلم نحو الموقع الاول في السلطة.
وإذا كان الانكليز هم الذين تبنوا عبد الإله وجعلوه وصيا على عرش العراق، فان نظرتهم الى نوري السعيد لم تتغير من البداية الى النهاية، فالمس بيل، سكرتيرة المندوب السامي حين التقت نوري السعيد لأول مرة في العام 1921 كتبت تقول: <<في اللحظة التي رأيته فيها أدركت بأن أمامنا قوة متينة مرنة، فإما ان نستعملها او نشغل أنفسنا بخصومات صعبة معه>> وهكذا أصبح مصير نوري السعيد والانكليز واحدا، وتشابكت العلاقات وتنوعت الى أقصى حد، بحيث تعتبر المرحلة التي سبقت 14 تموز 1958 مطبوعة أغلب الوقت بطابع الثلاثي الدائم: السفير البريطاني في بغداد ونوري السعيد السياسي المخضرم، ثم عبد الاله، مع تفاوت في أهميته وأدواره تبعا للمرحلة الزمنية.
لكن ما تجدر الاشارة اليه أثناء إعداد عبد الإله لاحتلال موقع متقدم في هذا الثلاثي: توثق العلاقة بين عبد الإله والمربع الذهبي؛ ثم الاستعانة بالاعلام، خاصة الصحافة السيارة، من أجل إعادة رسم صورة عبد الإله بحيث تبدو مقبولة بالنسبة للرأي العام العراقي أولا ثم العربي؛ كما قام خلال هذه المرحلة بفك العزلة عن نفسه والقيام بزيارات متعددة سواء للعتبات المقدسة او للألوية العراقية والاتصال بالجماهير.
وحين أعلنت الحرب العالمية الثانية تحركت الامور بسرعة أكبر من السابق، وأعلن الوصي قطع العلاقات مع ألمانيا وأكد التزامه بالمعاهدة العراقية البريطانية نصا وروحا، أما نوري السعيد فقد دعم الاحتكارات البريطانية لاستغلال خيرات العراق، وقصر التعاون مع الانكليز فقط، اما الألمان الموجودون في العراق فقد قام نوري بتسليمهم كأسرى حرب. وحين خطت السفارة البريطانية خطوة اضافية الى الأمام، وطلبت ان تقطع العلاقات مع إيطاليا ايضا، كان رد الفعل رافضا وعصبيا، إذ رفض الكيلاني الامتثال لهذا الطلب.
كان موقف المحور تجاه الحكومة العراقية وديا، مما انعكس ايجابا على العلاقات الالمانية العربية، والايطالية العربية، الامر الذي أثار السفارة البريطانية في بغداد ودفع اتباع الانكليز لإعلان معارضتهم لهذه السياسة، وتمثل الغضب كأشد ما يكون في موقف الوصي ونوري السعيد. وأخذت السفارة البريطانية تصعد من مطالبها، إذ بالإضافة الى المطالبة بقطع العلاقات الايطالية العراقية، طالبت الحكومة العراقية بإمرار قطعات عسكرية عبر الأراضي العراقية الى أماكن أخرى في المنطقة، والى بناء مجموعة من المطارات والقواعد العسكرية لخدمة هذه القوات. وحين لم تستجب الحكومة العراقية طالبت بريطانيا بإقالة وزارة رشيد عالي الكيلاني.
وتأزمت العلاقات العراقية البريطانية، وشاركت الولايات المتحدة بريطانيا في تصعيد الموقف المعادي. أما على المستوى الداخلي فقد لجأت الدولتان الى الحصار والمقاطعة، مما ولد مصاعب للحكومة العراقية خاصة وان هذا ترافق مع امتناع بريطانيا عن تزويد الجيش العراقي بالأسلحة والذخيرة واللوازم العسكرية الأخرى. وادت هذه الصعوبات الى عرقلة عمل الحكومة، والى رغبة عدد من أعضائها في الاستقالة.
الهروب الثاني للوصي:
لم تمض بضعة أسابيع على عودة الوصي إلا وأخذ الجو يتلبد مرة أخرى، إذ اخذت العلاقات تسوء بين الوصي وقادة الجيش، خاصة <<المربع الذهبي>>، وبدا أن الفترة التي يمر بها الفريقان عبارة عن هدنة، فقد أخذ كل فريق يرتب أموره وعلاقاته انتظاراً للوقت المناسب لكي ينقض على الفريق الآخر.
في إحدى الليالي من شهر نيسان 1941، واثناء انتقال إحدى سيارات القصر من قصر الزهور الى قصر الرحاب، لاحظ سائقها وجود سيارات عسكرية تطوق القصر، وقد أمر هذا السائق ان يعود لفوره من حيث أتى. وما كاد السائق يعود ويبلغ، وتصل هذه المعلومات الى الأمير عبد الإله حتى تحسب الى اقصى حد، وتأكد ان خصومه يطلبون رأسه، مما جعله يغادر القصر بسرعة فائقة الى دار عمته صالحة في الطرف الآخر من المدينة، في شارع أبي نواس، ومن هناك تم الاتصال بسندرسن باشا لكي يساعد على ايجاد مخرج. يقول سائق الوصي ان الوصي غادر قصره بملابس نسائية، عباءة تستر ملابس النوم وبرقع يغطي الوجه. وانه اخترق عدداً من الحواجز وهو في طريقه الى بيت عمته، في الوقت الذي يؤكد قادة الجيش انه لم يكن في نيتهم القاء القبض على الوصي، ولو ارادوا فقد كان الأمر سهلاً. أما عن اختراق الحواجز وتخطي نقاط التفتيش والحراسة فأنه مجرد وهم لإدعاء البطولة. كل ما كان يهدف اليه الضباط القادة هو تغيير صيغة الوصاية، بحيث تكون هيئة، الوصي واحد من افرادها، وليس الوحيد.
المهم ان سندرسن رتب موضوع انتقال الوصي الى الحبانية عن طريق الاتفاق مع الوزير المفوض الأميركي الذي كان ينوي الانتقال في اليوم التالي الى الحبانية لتحية السفير البريطاني الجديد، كورنواليس. وقد تم الاتفاق على ان ينتقل عبد الإله من دار عمته الى بيت الوزير الأميركي نابنشو، وهكذا اتخذت الترتيبات لهذا الانتقال.
اختفى الوصي في سيارة الوزير الأميركي المفوض تحت سجادة بين اقدام نابنشو وزوجته، وبعد تخطي الحواجز والصعوبات وصل الى الحبانية، ومن الحبانية طار يصحبه الايوبي ومرافقه المضايفي الى البصرة، وكان في استقباله هناك متصرف البصرة صالح جبر، الذي بذل أقصى الجهود لكي يجمع له الانصار والمؤيدين.
واستمرت الأمور تتأزم بين اطراف الصراع، وأصبحت الفجوات الدستورية حاجزاً دون اتخاذ الاجراءات لكي تواصل الدولة مسيرتها. إذ بعد استقالة طه الهاشمي من رئاسة الوزارة، لم يستطع رشيد عالي تشكيل وزارة جديدة لغياب رئيس الدولة أو من يقوم مقامه. ترافق هذا مع حشد قوات بريطانية جيء بها من الهند بناء لتوصية السفير البريطاني في بغداد وموافقة تشرشل، وكانت الحجة ان هذه القوات تبغي المرور عبر الأراضي العراقية الى فلسطين، وبعد اخذ ورد وافق رشيد عالي.
ولم تمر أيام قليلة من أيار 1941 إلا ووقعت الحرب في الحبانية ثم امتدت الى المناطق المحيطة بها وصولاً الى بغداد. وكما اشرنا ونحن نستعرض مسيرة رشيد عالي الكيلاني، لم تستطع القوات العراقية الصمود طويلاً، نظراً لأن الطيران لعب دوراً أساسياً في تشتيت الجيش وتدمير قواته، ثم تدخلت القوات البرية بما فيها قوات غلوب باشا، والمؤلفة من قوات البادية وقوات الحدود، والحقت بالجيش العراقي هزيمة كاملة. أما القوات الألمانية التي كان ينتظر منها العون فقد تأخرت في المشاركة، ثم ان مشاركتها محدودة، بحيث لم تؤثر على النتائج، وهرب قادة الثورة الى الدول المجاورة، خاصة الى ايران، وعاد عبد الإله الى بغداد في مطلع حزيران 1941 ليبدأ سلسلة من أعمال الانتقام والثأر. وتعتبر هذه الفترة من أصعب الفترات التي مرت على العراق، اذ جرت خلالها إعادة تشكيل الدولة، والى استبعاد جميع الخصوم والمخالفين.
بايجاز، كان يراد تحويل الجيش الى قوة استعراضية، واداة لقمع التمردات الداخلية.
ورغم الانسجام الظاهري بين نوري والوصي، واتفاقهما على تحقيق هذه السياسة، إلا أن التنافس بينهما لم يهدأ يوماً واحداً، وكان كل منهما يطمح لاحتلال الموقع الأول والخطوة المتقدمة لدى الإنكليز.