المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تحديات جنوب السودان



سالم الهزاع
03-11-2011, 09:24 PM
تحدِّيات ما بعد انفصال جنوب السودان
*
ليلى بيومي
*
في عصور ضعف الأمَّة وترنُّحها ودخولها في التِّيه يتمُّ اقتطاع أجزاء من أطرافها وتغذية عوامل الشقاق داخلها وإثارة النعْرات الطائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة داخلها... هذا ما يحدث الآن في الجسد الإسلامي المريض، فبعد أن تَمَّ اقتطاع "تيمور الشرقيَّة" من الجسد الإندونيسي المسلم، يتمُّ الآن اقتطاع وفصل ثلث مساحة السودان (وهي تعادل مساحة دولة أوروبيَّة كبيرة مثل فرنسا)، تمهيدًا للانقضاض على الأجزاء الأخرى من الجسد العربي والمسلم التي يجري تجهيزها وتسخينها الآن.
وبصرف النظر عن الإعلان الرسمي لنتيجة الاستفتاء في منتصف يناير الحالي، فإن الجنوبيين قد حسموا أمرَهم قبل أن يذهبوا إلى صناديق الاستفتاء على تقرير مصيرهم، فالنيَّة في الانفصال عن دولة السودان مبيَّتة منذ سنوات والمخطَّط موضوع بعناية، وما يحدث الآن ما هو إلا التنفيذ الدقيق للسيناريو.
جاء يوم الانفصال ليشهد الاحتفال الشعبي العام وسط الأفراح والأغاني وزغاريد النساء، ووسط عظات الكنائس وخطب رجال الدين المحرِّضة والداعية إلى الانفصال، ففي آخر مواعظ الكهنة والقساوسة في كنائس جنوب السودان يوم الأحد السابق للاستفتاء كانت هناك دعوة جامعةٌ شاملة لسكان الجنوب بالتصويت على الاستقلال، وفى آخر تصريحات زعيم الجنوب ورئيس حكومته سلفاكير دعوة صريحة للاستقلال والانفصال عن الشمال وإقامة دولة الجنوب المستقلَّة.
ومع وجود مكثَّف للشخصيات الغربيَّة الكبيرة مثل "جون كيري" مرشح الرئاسة الأمريكي الأسبق، الذي نسي نفسه كسياسي أمريكي كبير وافتخر بكاثوليكيتِه وقاد الجنوبيين في الصلاة مبتهجًا بالنصر الذي تحقَّق، مؤكدًا أن الخطوة الأولى قد تحقَّقت بانفصال الجنوب، وسوف نفرغ بعدها للعمل على استقلال دارفور.. وهكذا يتحدث القوم عن مخططاتهم بكل صراحة وعلانية وبلا خجل.
وجاء مقال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الافتتاحي المعنون "في السودان.. انتخابات وبداية" بجريدة "نيويورك تايمز" الأمريكيَّة الذي أكَّد من خلاله أن إجراء استفتاء هادئ ومنظَّم يمكن أن يضع السودان من جديد على الطريق نحو إقامة علاقات طبيعيَّة مع الولايات المتحدة، وأن إجراء استفتاء تسوده الفوضى سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من العزلة، وجاء عرضه على زعماء السودان.. "إذا أنجزتم تعهداتكم واخترتم السلام فهناك طريق للعلاقات الطبيعيَّة مع الولايات المتحدة بما في ذلك رفع العقوبات الاقتصاديَّة، وبدء عملية استبعاد السودان من قائمة الدول التي ترعى الإرهاب وفقًا لقانون أمريكا، وعلى النقيض من ذلك فهؤلاء الذين يخرقون تعهداتهم الدوليَّة سيواجهون مزيدًا من الضغط والعزلة"..
جاء المقال أو بالأصح التهديد ككلمة أخيرة وتذكير أخير وتحذير أخير للرئيس البشير ونظامه من مغبَّة الخروج عن النص.
وبصرف النظر عن حالة الألم والشعور بالهزيمة والمهانة التي تعتصر قلب كل عربي وكل مسلم، مذكرةً إياه بأنه يعيش عصر الهزائم المتوالية والمستمرة، فبعد إعلان إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948م، وبعد مجازر البوسنة والهرسك، وبعد التواطؤ على قضايا الشيشان في روسيا، والأبخاز في جورجيا، ومسلمي مورو في الفلبين، وبعد التواطؤ على حقوق المسلمين في كشمير الباكستانيَّة، وبعد اقتطاع تيمور الشرقيَّة من إندونيسيا، وبعد احتلال أفغانستان مرتين متتاليتين، وبعد احتلال العراق.. إلخ، إلا أن الأهم في هذه اللحظة التاريخيَّة هو العمل على أن يكون هذا هو آخر اقتطاع لأجزاء من العالم العربي.
التحدي الكبير الآن هو أن تحدث حركة وعي عالية في العالم العربي، مفادُها أنه إذا كان جنوب السودان (غير المسلم) قد تآمر الجميع على اقتطاعه من السودان العربي المسلم، فإنه لا ينبغي بأي شكل من الأشكال الانتظار حتى تكتمل خيوط مؤامرة اقتطاع دارفور المسلمة، بلاد حفظة القرآن، وبلاد سلطنة "الفور" الإسلاميَّة الكبيرة.
ستعلن الدولة الجنوبيَّة، وسوف تكون دولة جديدة طابعها الإفريقي هو الغالب، ولا وجود للطابع العربي فيها، ولن يكون هناك امتدادٌ عربي لهذه الدولة، فهي ما قامت إلا كراهيةً للهويَّة العربيَّة الإسلاميَّة، لذلك فإن الامتداد الثقافي والعرقي والديني للدولة الجديدة سوف يكون متوافقًا ومتناغمًا وأقرب إلى الدول المحيطة بها جنوبًا وغربًا، وهي إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وإفريقيا الوسطى، حيث تنتشر المسيحيَّة والعقائد الوثنيَّة، وحيث اللهجات المحليَّة بجانب التلاصق الجغرافي.
دولة جنوب السودان سوف تكون دولةً ضعيفة في كل شيء، في الموارد والقدرات والإمكانات السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، وبالتالي فسوف تكون في حاجة إلى من يوفِّر لها الحماية، وبحكم أمور كثيرة ليس أقلّها الترتيب والتآمر الدولي ستكون إثيوبيا هي الأقرب.
وإثيوبيا معروفة بتوجهاتها الخبيثة ضدّ الإسلام والعروبة، ودورها في الصومال ما زال حاضرًا، ودورها الخبيث في ملف مياه النيل ضد مصر والسودان كان أهم أدوار التحريض والتعاون مع الجانبين الأمريكي والصهيوني، لذلك فالخوف أن تتفاقم أزمة مياه النيل بعد الانفصال إذا تَمَّ توزيع حصة مياه السودان بين دولتي الشمال والجنوب، وإذا أضيرت مصر من هذا التوزيع، وخاصةً إذا انضمت دولة الجنوب إلى دول حوض النيل المتحالفة ضد مصر والسودان.
لنتعلم من درس الجنوب كيف نوزّع خطط التنمية على كل مناطق بلادنا، وإذا كانت الحكومات السودانيَّة المتعاقبة قد اهتمت بالتنمية في الشمال وأهملت الجنوب، فالدرس القادم هو أن تنمية دارفور يجب أن تكون على قائمة أولويات أية حكومة سودانية وكذلك الاهتمام بمناطق شرق السودان.
وإذا كنا متعاطفين مع نظام الرئيس البشير بتوجهاته الإسلاميَّة، إلا أن انفصال الجنوب حدث في عهده وهو يتحمل هو ونظامه تبعات الأمر، فالانفصال شهادة فشل لنظام البشير، وهو شهادة فشل للمعارضة السودانيَّة التي كانت في معظمها مؤيدةً ومتعاونة مع الانفصاليين نكايةً في البشير ونظامه، وينبغي أن ننطلق من أن النظام السياسي الذي يستحق دعمنا هو النظام الذي يبذل الغالي والنفيس في الدفاع عن وحدة أراضي الأمة.
وإذا كانت دولة شمال السودان ستخسر ثلث مساحتها من المراعي والأراضي والغابات، وسوف تخسر أهم مصادرها من البترول، وسوف تدفع فاتورة الديون الخارجية التي تقترب من 40 مليار دولار، فإن ما تبقى من أرض السودان وثرواته يكفي لانطلاق حركة تنمية واسعة، شريطة حلّ مشكلة دارفور وعدم السماح بظهور مشكلة جديدة في الشرق.
سيواجه السودان مشكلةً كبيرة في ترسيم الحدود، فلم يتفق الطرفان بعد على ترسيم 20% من حدودهما المشتركة رغم سنوات من الجدل وتقارير الخبراء، ومن بين النقاط الساخنة المحتملة منطقة "أبيي" التي تضم حقول البترول الرئيسيَّة وتقسيمها بين قبائل إفريقيَّة وأخرى عربية، واحتمالات الصراع بين هذه القبائل أمر محتمل، وقد يفتح أبواب الحرب مرةً أخرى بين العرب في الشمال والأفارقة في الجنوب.
ومن بين المشكلات المعقَّدة لما بعد الانفصال مشكلة الجنوبيين الموجودين في الشمال، والتي تشير التقديرات إلى أن عددهم نحو مليونين، وسيرغب كثيرون ممن ولدوا أو تعلموا أو عملوا أو تزوجوا في الشمال في البقاء، لكن تصريحات عدد من كبار مسئولي الشمال تقول إنهم لن يكونوا موضع ترحيب، أثارت مخاوف من احتمال إجبارهم على الرحيل، مع ما يمكن أن يمثله ذلك من توتر وتعقيد في العلاقات بين البلدين، خوفًا من تنامي العداء والكراهية بين الجانبين، مع ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مواجهات عسكريَّة.
ومن شأن انفصال الجنوب أن يساعد على تشجيع ودعم مشاريع التمرُّد والانفصال في "دارفور"، فموقف الانفصاليين سيكون أقوى لأن موقف حكومة الخرطوم سيضعف بعد فقد الجنوب، ولأن الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون ستمثل جزءًا أكبر في دولة الشمال المتقلصة المأزومة، ويمكن أن يصعدوا من مطالبهم بتقرير المصير اقتداءً بالجنوب، خاصة مع وجود الأطراف الغربيَّة المتعددة التي تقدم لهم المساعدات والتي تحبِّذ لهم الانفصال وتدعمه على كل المستويات.
وقد يساعد الجنوب قادة المشروع الانفصالي في دارفور، خاصةً إذا ادعت حكومة الجنوب أن نظام الخرطوم يدعم ميليشيات في الجنوب، مما يعني انخراط الحركات الانفصاليَّة في "دارفور" في حرب بالوكالة، مع ما يمكن أن يمثله ذلك من تداخل وتعقيد للأمور أمام نظام الرئيس البشير.
إلا أنه ربما يؤدي المخطط الغربي لفصل جنوب السودان إلى انعكاسات كبيرة وخطيرة على إفريقيا برمتها، وخصوصًا غربي القارة حيث تقسم الخطوط بين مسلمين ومسيحيين، حيث قسّم الاستعمار الأوروبي إفريقيا وفرقها بحدود قسرية لم تحترم الفوارق العرقيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة، وهي حدود وضعتها بريطانيا ودول استعماريَّة أوروبيَّة أخرى في مؤتمر برلين خلال عامي 1884م و1885م.
فعلى سبيل المثال هناك مخاوف من تقسيم، نيجيريا، البلد الأكبر سكانيًّا في إفريقيا، وهو البلد الذي يعاني بين فترة وأخرى من صراعات وموجهات دمويَّة بين مسلميه في الشمال ومسيحييه في الجنوب الغني بالنفط، وما يحدث في السودان قد يكون نموذجًا يُحتذى لتفكيك نيجيريا التي تندلع فيها مطالب التقسيم.
كما أن الأزمة السياسيَّة الأخيرة في ساحل العاج أثارت مخاوف جديدة من تجدد الحرب الأهليَّة بين مسلمي الشمال ومسيحيي الجنوب، وربما يكون التقسيم حلًّا مناسبًا على المدى البعيد، بل إن التقسيمات في ساحل العاج أكثر تعقيدًا من مجرد انقسام ديني، حيث يوجد أكثر من 250 تجمعًا عرقيًّا، وحيث تقوى الاختلافات القبليَّة والتراثيَّة والثقافيَّة وحتى اللغويَّة، وهناك أيضًا الفروق الاقتصاديَّة، حيث تنعدم المساواة بين الجماعات المختلفة، وكذلك التهميش السياسي والحرمان من الثروة، والخلاف بين المدينة والريف، والفوارق التي أورثها الاستعمار، وهي أمور ستسهم في إذكاء التوترات.