مدرسة القرية
كانت مدرسة القرية التي أدخلت فيها تعرف بمدرسة تل الهوى الابتدائية المختلطة وكانت هذه المدرسة جدرانها من طين وسقفها من خشب وحصران من سعف النخل ومغطى بالطين، وإذا أمطرت السماء كان المطر ينزل من السقف على أرض صفوف المدرسة وتصبح أرض بعض الصفوف طينية ولا يوجد مدرستنا ماء ولا كهرباء ولا مرافق صحية ، ولا جميع الصفوف تحفل بالمقاعد الدراسية فبعض هذه الصفوف كالصف الثاني كان طلابه يجلسون على حصير من ليف وكثيراً مايتسبب بتمزيق ملابس الطلاب لذلك اقترح احد الأساتذة على إدارة المدرسة أن يجلب كل طالب وسادة من صوف ليقوم بالجلوس عليها .
وأما الماء فكان يقوم بجلبه للمدرسة الحاج علي رمضان ـ رحمه الله ـ من البئر الارتوازية الوحيدة في القرية عن طريق برميلان صغيران يضعهما على ظهر حمار له وكانت هذه الطريقة متبعة في كل أرجاء القرية سوى بيتان هما بيت الشيخ مشعان والشيخ أحمد تركي ـ رحمهما الله ـ إذ كان بيـتـاهما متصلين بخزان القرية وذلك لوقوع داريهما إلى جواره وكونهما من أبناء شيخ القرية .
فكان الحاج علي رمضان ـ رحمه الله ـ يضع الماء في إناء مصنوع من الفخار يسمى ( الحبّ أو الزير ) موضوع على ركيزة من الحديد ذات قوائم ثلاث ، كي يشرب منه طلاب المدرسة وفي بعض الأحيان يتدافع الطلاب أمامه فيتسببوا بنكساره وإسقاطه على الأرض ، فنحرم الماء لعدة أيام حتى تقوم إدارة المدرسة بشراء إناء جديد للمدرسة في بداية الأسبوع .
ولا يوجد في مدرستنا مرافق صحية لقضاء حاجة الطلاب فإذا أراد أحد الطلاب أن يقضي حاجته ذهب إلى خلف التل إذ يوجد أخدود شقته المياه المنحدرة من أعلى التل عند نزول المطر ، وكثيراً ما كان بعض الطلاب لا يتمكن من الوصول إليه فيتبول على ملابسه أو يتبرز عليها .
كان المعلمون في مدرستنا أشدّ حرصاً من معلمي اليوم إذ كان بعض الطلاب لا يملك دفتراً أو قلماً يكتب فيه ، فما كان من معلم صفنا إلا أن يقوم بشراء دفاتر للإملاء للذين كانوا لا يجدون دفاتر لهم وأعطت إدارة المدرسة أقلاماً فضلاً عن الممحاة والمبراة وتبقى هذه الدفاتر والأقلام والممحاة والمبراة في صفنا توضع على الرف فكان لا يستطيع أحد منا أن يبري قلمه إلا بإذن من معلم الصف.
كان سكن معلمي القرية في أحد الصفوف التي يقومون بإفراغه من مقاعده ومن كان لا ينسجم مع زملائه يسكن في بيت من بيوت القرية ، وكان إذا خرج أحد المعلمين في المساء داخل القرية أو في أطرافها كل من رآه من الطلاب يهرب ويدخل إلى بيته لأنه في صباح اليوم التالي وفي أثناء التفتيش الصباحي يقوم بإخراجنا وضربنا على أيدينا بعصا نسميها الحجية ـ وهي متر من خشب ـ ولذلك كان لمعلم المدرسة بين أبنائها هيبة ومخافة في صدور أبنائها .
وفي أحد الأيام كنا نلعب أنا وأخي الأصغر ( محمد ) وأبناء خالتي ( فتحي ويونس وبلال ) ، كان الأستاذ نوري يسكن في بيت في القرية وكان شديداً متابعاً لكل حركات طلاب المدرسة وبسبب شدته هذه كان الآباء يهددون أبنائهم إذا عصوهم بالأستاذ نوري ، فكنا نخشاه أكثر من خشيتنا لآبائنا .
خرج الأستاذ نوري من إحدى دور القرية فرآنا فهربنا ودخلنا إلى بيت خالتي وكان زوج خالتي يجلس مع أحد أقربائه خارج الدار فقال له : إنهم في البيت ، فدخل الأستاذ نوري فلم يجد أحداً ، فقال له زوج خالتي : أين هم ذهبوا لا يوجد في البيت سوى العدول ـ برميلان وضع عليهما عمودان وضع عليه المنام الذي تنام به العائلة عليهما ـ وبرميل قديم وضع فيه الطحين سوف تجدهم اما في البرميل او فوق العدول .
فعاد إلينا الأستاذ من جديد ونظر في برميل الطحين فوجدني أنا واحد أبناء خالتي وأخرج اثنان من أسفل المنام واثنان من أعلاه وحاسبنا بشدة .
وتملكنا الخوف لأنه سوف تكون العقوبة في صباح اليوم التالي وفي الصباح وفي التفتيش الصباحي وقف المعلم المشرف على تفتيش المدرسة وبيده قائمة للمخالفين من طلابها الذين قاموا بالمخالفات بعد الدوام الرسمي من خلال متابعة المعلمين لطلابهم أو من خلال بعض الطلاب الذين يقومون بجلب بعض الأسماء إليهم من المخالفين يُطلق عليهم اسم ( المراقب السري ) كان المراقب السري كالسيف مسلط على رقاب طلاب المدرسة لأنه لا يُعرف من هو من بين الطلاب وكان كثيراً ما يسجل أسماء طلاب ربما كانوا خارج القرية في ذلك اليوم ، وذلك لعدائه إياهم وكنا نخشى منه كثيراً لان تسجيل اسم احدنا مرتبط بضميره الذي كان كثيراً مايغيب .
وكان دائماً يفتضح أمره من خلال مراقبة الطلاب لمن يدخل إلى إدارة المدرسة في الصباح فنعرف انه ( المراقب السري ) فإذا عُرف انتقم منه الطلاب بعد الدوام الرسمي وآذوه أشدَّ الإيذاء فإذا افتضح أمره تخلت عنه إدارة المدرسة وبقى تحت رحمة طلابها .
فإذا أراد أحد الطلاب أن يتغيب كان يجب عليه أن يأتي إلى المدرسة لغرض أخذ إجازة له في اليوم التالي ولكي لا يحاسب على غيابه وبذلك ينجو من( الحجية ) .
وفي نهاية الدوام الرسمي من يوم الخميس يذهب عدد من الطلاب قبل نهاية الدرس الخامس ليجلبوا بعض العجلات والحمير التي وضع عليها سروج جيدة محشوة بالقش لغرض أن يركب المعلمون عليها ليتم إيصالهم إلى الشارع العام الذي يربط ناحية ربيعة ـ موصل ولا سيما إذا كانت الأرض طيناً .
و كنا لا نذهب إلى بيوتنا بل نصعد إلى أعلى تل القرية الذي كان مجاوراً للمدرسة وننتظر إلى أن يصل المعلمون إلى الشارع العام ويستقلوا أيَّ سيارة أجرة قادمة إليهم .
وفي يوم السبت نأتي بوقت مبكر ونفعل كما فعلنا في يوم الخميس فإذا وقفت سيارة أمام مفرق القرية أخذنا نرقص ونهتف جاء المعلمون جاء المعلمون ... ونهرع مستقبليين إياهم وربما يصل البعض منا إليهم برغم تحذير إدارة المدرسة لنا في يوم الخميس أن لا نستقبلهم سوى الذين يقومون بنقلهم من الشارع إلى المدرسة.




***