الكاتب الدكتور سعد حداد



أسرة آل حيدر.. الجذور و الأعَلام *

آل حيدر ((من الأسر العربية العريقة في القدم والسابقة إل
وبنو أجود أو آل أجود ((بطن من غزية وهم بطون كثيرة في برية الحجاز مع قومهم غزية))
(2) وشيخ (وثال) هو رئيس قبيلة آل أجود العربية أحدى أطراف الحلف الثلاثي في إمارة المنتفك(3) وإليه ينسب آل حيدر وهو جدهم غير أنهم عرفوا فيما بعد باسم جدٍ له يدعى (حيدر) وقصة تحولهم إلى حمل هذا اللقب يعللها الشيخ محمد الخليلي فيقول ((وقد حدثنا التاريخ وأيده النقل المتواتر الصحيح إن سبب تحول أبناء هذه الأسرة من بداوتها إلى الحضارة هو حدوث وقائع تاريخية دامية بين قبيلتي (أجود) و (مالك) وكان منشأ هذا النزاع من اجل عين ماء تعرف بـ (الدلهمية) أو (الدرهمية).(4) والقصة طويلة لكن ما يفيد هنا هو أن احد أنجال الشيخ وثال ويدعى (دنانة) فرّ هارباً وحلّ عند عشيرة (التامرية) في سوق الشيوخ (ناحية عكيكة)، وحين عرفوا عراقة أصله زوجوه امرأة من بيوتهم فدأب على تعلم قراءة القرآن وحفظ شيء من أمور الدين مما منحته درجة متقدمة في القوم. وأنجب ولداً أسماه (كرم الله)، وكان صالحاً ثم أعقب (كرم الله) ولداً اسماه (خليفة) شبّ هو الآخر على سيرة والده وجده، وتردد على النجف للتزود من العلوم، فكان ذا موقع سامٍ في قومه. أعقب (خليفة) ولداً اسماه (حيدر) الذي اقترن إسم الأسرة باسمه وكان شيخاً صالحاً خلّف ثلاثة أولاد هم (محمد علي وحمد وحسن).
أما الشيخ محمد علي فهو أول من أرسى حجر بيت أهله العلمي _ الديني. كان معاصراً للشيخ جعفر كاشف الغطاء والسيد بحر العلوم، وله كتاب في الأصول اسماه (وافية الأصول). وقد هاجر إلى النجف، وشاد فيها مسجداً كبيراً للأسرة. أعقب ثلاثة أولاد هم (موسى وعيسى وعلي).
أما الشيخ علي فهو ((العلامة المتبحر المحقق الماهر، من أجلاء تلامذة العلامة الأنصاري، ثم الحاج السيد حسين الكهمكري. صنف في الفقه والأصول وبعض مسائل

(1) ماضي النجف وحاضرها 2/192.
(2) سبائك الذهب ص 48.
(3) الحلف الثلاثي هم (بنو سعيد وبنو مالك وبنو أجود) وكل ثلث يضم قبائل متعددة.
(4) المهرجان الخالد – المقدمة.
المعقول، وله حاشية على القوانين، وحاشية على الفصول، وكتب كثيراً من تقريرات بحث أستاذه وكتاباً في الرجال، ومنظومة في المنطق وأخرى في الأصول، وشرح تلخيص التفتازاني، وغريب القرآن، وكان من علماء العرب المدرسين في النجف حتى ضاقت عليه الأمور.
وبعد اغتصاب أملاكه بسوق الشيوخ، اضطر إلى سكناها، وصار في تلك النواحي المرجع العام للخواص والعوام، حتى أتاه الحمام في سنة 1314هـ)).(1)
ومن الطرائف التي تروى عن الشيخ علي، مداعبة صديقه الشيخ جواد محي الدين له إثر قدومه إلى النجف الاشرف من بلدته سوق الشيوخ قائلاً:

شيخ سوق الشيوخ قد جاء يسعى
عجلاً للغري غير شموخ
جج
لو بسوق الشيوخ للشيخ سوق
لمعاش ما عاف سوق الشيوخ


فأجابه الشيخ علي مرتجلاً على الفور:

قل لشيخ للغري ما خاب مسعى
من أتى مثقلاً بهدي الشيوخ
جج
إنّ سوق الشيوخ أهلي وقومي
ومعاشي بأرضهم وشموخي


وقد أعقب الشيخ علي سبعة من الذكور هم (باقر وحسن وحسين وجواد ومحسن ونعمة وحيدر).
أما الشيخ باقر بن الشيخ علي فهو كما ذكره الحجة السيد هبة الله الحسيني الشهرستاني (من الشخصيات البارزة في ميدان العلم والأدب، كانت نفسه تحمل قدراً عظيماً من الشهامة والفتوة، فقد قضى دوراً في سامراء أوائل القرن الرابع عشر الهجري بين تلامذة آية الله العظمى المرحوم مرزا حسن الشيرازي. وبعد وفاته انتقل الشيخ إلى النجف الاشرف وتصدى هناك للبحث والتدريس والإفاضة على المجتمع العلمي، ولبروزه في العلم والتقوى فقد اتفقت كلمة رؤساء الهيئة الدينية كحجج الإسلام الشيخ محمد طه نجف والحاج مرزا حسين خليل والشيخ ملا كاظم الخراساني على إقناع (الشيخ باقر بقبول الرئاسة العلمية و الدينية في نواحي المنتفك لشهرته هناك وميل القلوب نحوه، فتوجـه الشيخ إليها

(1) نقباء البشر 1483 وينظر: معارف الرجال 2/114، مصفى المقال 323.
شريطة الفتوى برأيه الخاص. وهناك أضحى منار الهداية والرشاد ومنهل العلم الصافي في كافة بادية المنتفك وحاضرتها، وكانت له مع آل السعدون ورؤسائهم مواقف مشهورة وتاريخ مجيد في بدء الحرب العالمية الأولى. فقد نهض بدعوة الجهاد وحمل راية الكفاح وبذل في سبيل الله نفسه ونفيسه، وكان زعيماً على أكثر من عشرة آلاف متطوع مجاهد في الحملة الموجهة إلى البصرة، وهناك استولى عليه المرض وهو في حومة الحرب ومع ذلك ما انثنى عزمه الصارم ولا انفك عن تشجيع تابعيه للكفاح دون حقوق بلاده المقدسة ووطنه العزيز، ولما اشتد به المرض أوصى إليّ باستمرار السير إلى الأمام وعلى أن يحمل جثمانه على أكتاف المجاهدين معرضين به للقنابل والرصاص حتى يتم النصر للمجاهدين باسترجاع البصرة، وأكد عليّ رحمه الله تعالى أن لاتنقل جنازته بعد وفاته إلى المشاهد المشرفة خشية انشغال المجاهدين عن الجهاد وتشييعها، ثم لم يلبث زماناً حتى فاضت نفسه الزكية سنة 1333هـ).(1)
وقد أثنى على الشيخ باقر عدد من العلماء الأعلام والمترجمين أمثال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (الحصون المنيعة) والشيخ اغابزرك الطهراني في (نقباء البشر) والسيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) والسيد عبد الحسين شرف الدين في مجلة العهد سنة 1947م (العددان الرابع والخامس)، والشيخ السماوي في (الطليعة) وغيرهم.
وكان للشيخ باقر علاقات واسعة مع أقطاب الدين والسياسة والأدب في عصره، وكان للحليين نصيب واسع من الروابط معه كالسيد محمد القزويني (ت 1335هـ) والسيد عبد المطلب الحلي الذي بعث له برقياً بيتين من الشعر يستنهضه بهما الى حرب الإنكليز:

نحن بني يعرب ليوث الوغى
دين الهدى فينا قوي عزيز
جج
لابد أنْ نزحف في جحفل
نترك نهباً فيلق الإنكليز(2)


وترك الشيخ باقر شعراً أغلبه في رثاء أهل البيت (عليهم السلام)، وأعقب من الذكور (جعفر ومحمد حسن(3) وصادق ومطلق

----------------------------------------------------
(1) ينظر: مشهد الإمام 3/179-180.
(2) ينظر: شعراء الغري 7/367، مشهد الإمام 3/182.
(3) كان الشيخ محمد حسن بن باقر شخصية وطنية ونائباً لرئيس مجلس النواب العراقي في العهد الملكي وشاعراُ توفي سنة 1944م.
------------------------------------------------------

أما ولده الشيخ جعفر فقد (كان من رجال العلم والعمل ومن الفضلاء المعدودين في الحوزة العلمية ولد في غضون سنة 1302هـ ونشأ في أحضان أبيه ودرس بعض المقدمات في سامراء ثم انتقل إلى النجف فأكمل دروسه على أقطاب العلم من علماء النجف حيث درس بعض العلوم الرياضية كالحساب على آية الله الشيخ عبد الرسول الجواهري، وقرأ شطراً من العلوم العربية على يد العلامة الشيخ محمد جواد الجزائري ثم أكمل باقي سطوحه من فقه وأصول ومعاني وبيان على يد حجة الإسلام السيد حسين الحمامي, وبعد وفاة أبيه اضطر إلى الرجوع إلى سوق الشيوخ فقام هناك بعبء الزعامة الدينية الموروثة خير قيام وتجرد لما عليه من أداء الواجب الديني والإنساني مدة غير قصيرة حتى وافاه الأجل المحتم على اثر مرض عضال لازم فراشه فيه، وكان ذلك في ليلة الأربعاء 12 شوال سنة 1372هـ (1953م)، فشيع جثمانه الكريم بموكب مهيب حضرته كافة الطبقات من أهالي سوق الشيوخ ونواحيها، وقد رافقته العشائر من السوق إلى لواء الناصرية فشيعته هناك شخصيات البلد وأعيانهم ثم توجه به إلى النجف الاشرف بكل حفاوة إلى أن وصل إلى السماوة حيث هرعت الجماهير لنقل الجثمان على الرؤوس، ثم رافقته جملة من رؤساء البلد إلى الشامية فصحبته سيارات عديدة من الشامية إلى (أبي صخير)، فاستقبل الموكب بالجماهير التي نقلت الجثمان من سيارات سوق الشيوخ إلى سياراتهم، حتى إذا وصلوا النجف في ليلة الخميس 13 شوال، استقبله جمهور النجفيين وكان في طليعتهم جمع من العلماء والأعاظم تغمرهم الروعة والجلال وتهيمن على نفوسهم الكآبة. وهكذا شيع الجثمان إلى مقره الأخير في الصحن الشريف تغمده الله بالرحمة والرضوان).(1)
وقد أعقب الشيخ جعفر أربعة ذكور هم (موسى ومحمد ومنصور واحمد). اما الشيخ محمد أبن الشيخ جعفر فهو مدار بحثنا.

* اسمه ونسبه *
هو الشيخ محمد بن جعفر بن باقر بن علي بن محمد علي بن حيدر بن خليفة بن كرم الله بن دنانة بن مذكور بن غانم بن وثال (أوثال) بن محمد بن جبر بن منصور بن مناع (منيع) بن سالم بن زامل بن سيف بن أجود بن زامل بن حسين بن ناصر بن جبر (الجبري) العامري القيسي.(2)

(1) مشهد الإمام: 3/183-184 وينظر: نقباء البشر 279، ماضي النجف 2/195، مشاهير المدفونين في الصحن العلوي الشريف ص72.
(2) أعدت سلسلة النسب عن مشجر للأسرة يحتفظ به أبناؤه. رُسم وأُعد من قبل المرحوم الشاعر جميل حيدر وأيدّ من قبل النسابين.

* ولادته ونشأته *
ولد الشيخ محمد حيدر في مدينة سوق الشيوخ في الناصرية سنة 1346هـ/1927م.(1) (ونشأ على أبيه الذي تزعم الدين وهيمن على المنطقة العشائرية، فكان الوليد يشاهد الأبطال المدججين بالسلاح، والشخصيات العاكفة على دار أبيه وهو يافع، فأعتدّ بنفسه وتأثّر بالآداب الاجتماعية وأصولها عند العشائر).(2)
وشبّ حتى بلغ الحلم، فهو شاب لابد أن ينحو خط أسلافه ويتخذ ما ساروا عليه منهجاً، طالبين للعلم، ساعين في خدمة الدين والأمة، وربما كان الشاب محمد يرنو ببصره نحو النجف وعلمائها وحوزتها ويطمح أن يتحقق ما يصبو إليه. ويبعث الله سبحانه وتعالى من يحقق له رغبته التي طال انتظارها.

* دراســته *
في سنة 1945م ألحّ أحد الصالحين في سوق الشيوخ ويدعى (الشيخ حسين) على والد محمد أن يرسل أولاده إلى النجف الاشرف كي لا تنقطع الذرية عن دراسة العلوم الدينية. ولما كان الشيخ جعفر متفقاً من حيث المبدأ على فحوى الفكرة، حزم حقائبه واتجه بولديه (محمد وموسى) صوب مدينة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ليحطّ رحاله في دار لهم هناك، وليبدأ عهد جديد في حياة الشاب، بعيداً عن عبث الشباب وبراءة الطفولة التي غادرها، وقريباً من نمير العلم في مدينة باب العلم. فراح يرتشف من رضابها شهداً وينهل من نمير موارد علمائها أوليات العربية ومقدمات العلوم الدينية. وأول من احتضن الفتى علماء أحبهم وأحبوه فتقرب منهم وقربوه ومازال احدهم أمد الله في عمره يذكره بالود والإكبار وهو الشيخ باقر شريف القرشي والآخران هما المرحوم الشيح أسد حيدر والمرحوم الشيخ محمد رضا العامري.
ونما عوده فاستوى، فكان لساحة الأدب أدنى، وبعالم الشعر الصق، وبين هذا العالم وعالم العلم كانت السطوح العالية فقهاً وأصولا وبين معلميه الأوائل ومعلميه الجدد وشائج لا تنقطع عراها، فكلهم أجلاء يقدرون في هذا الفتى حرصه واندفاعه نحو عالم فسيح، عالم غير متقوقع في دراسة مرهقة صعبة. لذا كانت دراسته متقطعة على يد العلامة الشيخ محمد
تقي الجواهري والحجة السيد إسماعيل الصدر والعلامة الشيخ علي زين الدين البصري.

(1) وانفرد الأستاذ محمد حسين الصغير في كتابه (فلسطين في الشعر النجفي المعاصر، هامش ص181) بالقول ((ولد في النجف الاشرف عام 1928م وهو كلام غير دقيق)).
(2) جريدة عروس الفرات – ع 18ص5 – مقال السيد سلمان هادي آل طعمة.
درس خلالها شرائع الإسلام واللمعة الدمشقية ومعالم الأصول والكفاية ووسائل الشيخ الأنصاري.
ولم يكتفِ طالب العلم المتقدم في درسه من المثابرة، فكان حريصاً في حضور بعض دروس الاستدلال الفقهي عند الحجة الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي والحجة السيد محمد تقي بحر العلوم. وبين درس الشيخ ودرس السيد كان يحث الخطى نحو حلقات درس المرجعين الكبيرين آية الله العظمى الإمام السيد محسن الحكيم وآية الله السيد حسين الحمامي. غير أن دراسته لم تكن دراسة منهجية منتظمة.
وإجتاز الشيخ محمد معابر كثيرة داخل الحوزة وحلقات الدرس، استطاع خلالها أن يحصد ثمار جِدّه وسهره وسعيه الدؤوب في الإطلاع على عالم كبير لاحدود له، وتسلحه بثقافة دينية اهلته وهو في جو التلمذة أن يُكلّف بتدريس المقدمات للطلبة الجدد القادمين إلى الدراسة في النجف.

* الحياة الجديدة *
إنّ هذا الاندفاع والانتظام اخذ بالفتور مما انعكس على عدم تواصله المستمر في حضور حلقات الدرس. ولو استمر في مسعاه لكان شأوه أعظم من أن يذكر، بيد أنّ ظروفاً قاهرة أجبرته على التراجع عن حضور حلقات الدرس لمدد متقطعة ولعل (السبب في هذا الانفكاك وعدم الجدية في مسايرة الحركة العلمية في أسلوبها الحوزوي في النجف الاشرف، وعدم انتظام المعيشة، وشدة الحاجة، وتفوق عامل العفّة والتجرد، وعدم الالتصاق والوقوف على الأبواب ما عدا باب الله عز وجل).(1)
هكذا أجمل الشيخ بعض مسيرته بكلماته التي تدل على عفته ونزاهته و وضعه غير الطبيعي يومها، فبعد ثلاث عشرة سنة من السعي الحثيث بين الدراسة ونضوج شخصيته العلمية والأدبية وبين متطلبات المعيشة العائلية، آثر الانتقال إلى مدينة أخرى بعيداً عن جو الدراسة قريباً من جو العمل الميداني في نشر العلم والتبليغ الإسلامي على الرغم من نصيحة السيد محمد علي خان له بعدم النزوح عن النجف لما وجد فيه من أهلية في الدراسة ولكن .. كان له ما أراد (إذ أرسله السيد الحكيم إلى جلولاء وكيلاً عنه، فقام بواجبه في الوعظ والإرشاد والتوجيه).(2) وذلك سنة 1958م.
ولضرورة ملحّة يغادر الشيخ جلولاء إلى بغداد حيث التكليف الشرعي الآخر لحل مشكلات حصلت في منطقة (تل محمد) ليعود بعد قضاء سنتين من الجهاد إلى جلولاء (ليسد

(1) من أوراق الشيخ محمد حيدر.
(2) شعراء الغري 11/162.
الفراغ العلمي والفقهي فيها).
وبين هذا التنقل الذي أكل من عمره عشرة أعوام، ظلّ الشيخ محمد مفعماً بالعطاء العلمي والأدبي، متواصلاً مع المركز الروحي، ومتابعاً لشد أواصر علاقاته وصداقاته، متلألئاً في حضوره، ومتألقا في إبداعه ومنجزه، من خلال كتاباته للمقالات المتنوعة ونشره لقصائده في المجلات والصحف العراقية.

* خاتمة الترحال *
كتب الشيخ محمد حيدر في بعض ماعنّ له من ذكرياته بأسطر نقتطف منها قوله: (ألحّت عليّ زوجتي وبعد أن أصبحت أم أولاد (ذكور وإناث)، ألحّت كثيراً وهي شريكة حياة بالرجوع إلى البلدان المجاورة للعتبات المقدسة، لأنها كانت تحنّ وتئنّ إلى كربلاء ومصارع أهل البيت (عليهم السلام). وكانت تتعاهد الأشرطة الحسينية لغرض إشباع نهمها العاطفي، والقضاء على الغربة في البلد البعيد، وبعد الأخذ والرد، رجعتُ وبأمر الإمام الحكيم (قدس سره) غلى الحلة وفي مسجد ابن نما. ولعل من أوضح الأسباب، القصيدة التي ألقيتها في رثاء خطيب العلماء وعالم الخطباء الشيخ محمد علي اليعقوبي، وكانت تشتمل على دور عاطفي يتضمن الحنين إلى النجف:

وطن الإمامة والهوى النمام
عفوا إذا شلت خطى أقدامي

أقسمت أحيا في ضفافك وردة
وسنى، وجدول صبوة وغرام

هاموا بلبنان، وكان هيامي
جج بك لا بغيرك يا مقر إمامي

حسبي افتخارا – مولد لعقيدتي
ينمى إليك – ومدفن لعظامي

ماذا جنيت – وقد نبتْ أحلامي
جج ومن المحابر ما ارتوت أقلامي
ج
حظي من الحرمان انك طاردي
وعلى ترابك بلسم لسقامي
ج
طافت بي الأزمات يتبع بعضها
ج بعضاً فمن ألم إلى آلامي

وكأنني راع يجول - مرددا
هذي عصاي وهذه أغنامي

ولرب هاتفة بأذني – كلما
وقعت في غير الهوى أنغامي

تربت يداك فلستُ أول خاسر
ج يا بائعا دراً على فحام
ج


والحلة، بلد العلم والأدب المحض التاريخي للشيعة بعد النجف الاشرف. والحلة مازالت تحتفظ بتراث علمي وأدبي، وعلى الوجوه سماه، وفي الألسن شواهد. والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربّه).
ثم يضيف الشيخ فيقول: (انتقلت إلى الحلة بلد العلم والأدب والمعرفة والنبل والوداعة، ومازلت في هذا الجانب أقوم بدوري الديني حسب ما يتسع له الجهد العلمي، وما تقتضيه الفترات من ضروب الأخذ والعطاء).(1)
وينتقل الإمام الحكيم (قدس سره) إلى رحمة الله وتنتقل الزعامة الدينية إلى السيد الخوئي فيبقى الشيخ محمد حيدر وكيلاً عنه في الحلة إستمراراً لوكالته للسيد الحكيم.
كان نزول الشيخ محمد حيدر الحلة في الثالث من شهر رمضان المبارك سنة 1388هـ الموافق 24/11/1968م. وقد اتخذ من مسجد ابن نما الحلي مقراً له وفي المسجد مرقد شيخ الفقهاء نجيب الدين محمد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله بن نما بن علي بن حمدون الحلي (المتوفى سنة 645هـ).
زار محقق كتاب مراقد المعارف الشيخ محمد حسين حرز الدين المرقد والمسجد سنة 1967م ووصف عمارته، ثم زاره مرة ثانية سنة 1969م فقال: (وبعد عامين مضيا على هذا التاريخ طرأت على مرقده وجامعه بعض التغييرات الجديدة، فقد أصبح جامعه ومرقده اليوم كمدرسة علمية أدبية للوعظ والإرشاد وتهذيب النفوس، وقد تشكلت فيه حلقات التدريس في العلوم الدينية والكلامية، يحضرها شباب مؤمن مهذب من عشاق الفضيلة والكمال، يلقي عليهم محاضرات علمية قيمّة سماحة الحجة التقي الشيخ محمد آل حيدر، كما ويقيم الشيخ الصلوات جماعة في هذا الجامع حيث يأتم به جماهير المؤمنين الصلحاء).(2)
وهكذا دأب الشيخ على عادتـه لأكثر من عقدين متحملاً أعباء الوكالة الدينية لمرجعية آية الله السيد الخوئي (قدس سره)، بكل أمانة وإخلاص، مدافعاً عن الحق وناصراً للمظلوم وباحثاً عن الثكالى واليتامى والأرامل التي خلفتها حـرب ضروس امتدت ثمانية أعوام كان الناس فيها لاحول لهم ولا قوة، فالإرهاب أقوى والإجرام اعنف، والحقد أعمى ..
كم أكلت الحرب ومضرموها شباباً في عمر الزهور، ليس لهم فيها ناقة أو جمل
سوى أنهم عراقيون طيبون ..


(1) من أوراق الشيخ محمد حيدر.
(2) مراقد المعارف: 2/ 275-277.
ولم تعفُ الشيخ قوى الظلام حتى مزقت بأنيابها السامة فلذة كبده (مرتضى) في حياته بعد تعقّبه ومضايقته وملاحقته بدون وجه حق كما آلاف الأبرياء، ثم انضم ولده (باقر) إلى قافلة شهداء المقابر الجماعية سنة 1991م بعد اعتقال والده. ليسجلا تأريخاً مشرقاً في سجل أسرة آل حيدر.
وكذلك فعلوا بالشيخ نفسه، حين أرعبهم بإيمانه وتقواه، ودعوته إلى الصراط المستقيم، والتمسك بالثقلين ونهجهما القويم من خلال أحاديثه وخطبه أيام الجُمع والمناسبات الدينية أو في محاضراته أيام شهر رمضان المبارك .. فكان الظلاميون يتابعون ويتقصون وهو يدري أنهم يكمنون له في كل مكان .. حتى أزف الموعد فكانت الشهادة بعد ان اختطف غدراً وخيانة في آذار عام 1991م يوم كانت الحلة تعيش مأساة العصر، مأساة المقابر الجماعية والإعدام العشوائي وبعد أن هُدمت المساجد فيها. ومنها مسجد الشيخ الشهيد، مسجد ابن نما.
وهكذا انتصر الشيخ ببقائه حيّاً في الضمائر والنفوس وصورته شاخصة في العيون والقلوب .. وصوته صداحاً حراً ينذر الظلاميين الظالمين والطغاة الحاقدين بالشؤم وبئس المصير.

* حياته الزوجية *
كتب الشيخ محمد حيدر في بعض أوراقه قائلاً:
(الحياة الزوجية في طبيعة الفكر الإسلامي من ابرز العوامل الطبيعية للقضاء على قلق الإنسان من جانب طبيعي، ومنطلق العقل الفعال من جانب تشريعي).
ومن هذا المنطلق كان لابد لولد بلغ الحلم أن يكون موضع استفهام والده الرجل المتدين فهو المسؤول عن سلوك ولده والقيّم عليه والمعيل له .. أوضح له ذلك، فكان له ما أراد .. وخطب للولد مبكراً وتم الزواج المبارك على شرف أب حانٍ عطوف وأقيمت حفلات لاتشبه حفلات الأعراس، فلا كأس ولا مدام أوغرام إلا في القصائد التي ألقيت ابتهاحاً بزواج محمد .. فالشعراء توافدوا إلى سوق الشيوخ مهنئين ومباركين الوالد والولد ومتمنين له الحياة السعيدة والرفاء والبنين، شارك في الحفل السيد مصطفى جمال الدين وكان لقصيدته صدى جميلاً في نفوس الحاضرين ومطلعها:

يا ليل أين أحبتي ورفاقي
خلت الكؤوس فأين ولىّ الساقي
جج
¬¬¬

وأعقبه الشعراء السيد حسين بحر العلوم والشيخ محمد الهجري والشيخ احمد الدجيلي والشيخ باقر الهجري والأستاذ صالح الظالمي والشيخ جعفر الهلالي والأستاذ مهدي الحمدي والحاج سالم الحسون وعبد الحميد السنيد وجميل حيدر.
وشكرهم (العريس) بالشعر أيضا معبراً عن عميق امتنانه وعظيم شكره. وكانت سنة مخضرة الجوانب، تلعب في آفاقها الآمال والأحلام، وعاش الزوجان في ظل والد أراد لابنه ان يكون شمعة مضيئة في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى .. لكن الأقدار السماوية وضعت يدها فلبى الوالد نداء ربه .. وكان العهد الجديد .. وراح الزوج يتأمل ويقلب الأحداث ويدرس القضايا ويقارن قبل أن تتأزم حياتهما الزوجية، والمرأة صابرة تتأمل أيضا وتلاحظ كيف تمهد الطريق لحياة أفضل.
ويعتصر الألم حياة زوجين شابين، اعتمدا على أب حنون وهما في مقتبل العمر .. لكن النصر لم ينزل على قدر الصبر فيفرج الله لهما .. وهذا سبب الفتور الذي أصاب الشيخ وهو في دراسة السطوح العالية، فقد كان همّاً كالجبل مثقلاً بكاهله على زوج وزوجة.
وينطلق الشيخ بعائلته منتدباً من قبل السيد الحكيم (قدس سره) ليحط الرحال في ثكنة عسكرية بين خانقين وكركوك هي جلولاء. ويبدأ الجهاد الديني والجهاد الأسري، فالغربة والوحدة تمتد لسبع سنين عجاف لم تكن سلوته غير زوجته موضع سره وانيسه في غربته. كيف لا وهو الشاب الذي تعود ارتياد المحافل، فلا أدب ولاشعر ولامناظرات ولامحاورات علمية .. وأخذت تلح عليه بالنزوح إلى الحلة أو غيرها فهي اقرب إلى كربلاء والنجف. لكن الأمر ليس كما يشتهيان، فالأمر الشرعي يؤكد بالذهاب إلى بغداد وتحديداً في (تل محمد) لمهمة دينية خالصة لوجه الله تعالى، فيمكث عند الحاج عباس الحداد – رحمه الله – فإذا بصيص أمل يطل وموضع رجاء ينمو، كانت حياة علمية وأدبية، تفتحت شفاه الزوجين بأنغام الحياة وعادت الآمال والأحلام سيرتها الأولى وفي مطافها الجميل.
سنتان لاغير حتى جيء بخبر إغلاق حسينية جلولاء لأسباب تعيها مقتضيات المصلحة العامة فعاد بأمر السيد الحكيم مصلحاً الموقف ومعمراً النفوس ومثمراً بالنتائج ..
وأثمر الزوجان من زرعهما بأطفال كالورود، لكن الزوجة ظلت على حالها تئن للعودة صوب مراقد الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، واستجاب الله دعاءهما. يقول الشيخ في بعض أوراقه:
(عشت مع زوجتي في الحلة في جو لا أكاد احلم بمثله، ودرّت الحياة واخضرت جوانبها، وأقبلت النعم من كل مكان. وأنا وحدي وفي مواضع السر من تأملاتي ألاحظ شيئاً يطاردني وأقرأ في الغيب المصون مالا تراه عين ولا يحسه سمع. وللأقدار يد لا ترد، وللمسميات من الآجال كل مجال، فانتابت الأقدار وهي الحكم – زوجي الحامل وكانت ليلة حبلى بالآلام، وكان فجرها اشد وأقسى وخضت غمرة صراع جديد، وفتحت علي ابواباً كانت مغلقة واستجدّت أحداث ودبّت الآلام النفسية وأكلت من تأملاتي وضاعفت من مشاكلي. على
ويظل وحيداً إلا من أطفال يعيش معهم الجانب العاطفي ويحنو على تلك الطفلة المعذبة، وراح يتسلى بالشعر ويستثمر حبه لزوجته بما تجيش به مشاعره. لكن الشعر لايفي بما للجسد من سعار غريزي، فكانت نصائح الأطباء الزواج فهو نصف العلاج كما يرون. ونزولاً عند رغبتهم تزوج ثانية، لكن هل يطيق المحب فراق أول حبيب. كان ذلك عام 1973م، ويدون الشيخ بعضاً من همومه فيقول:
(فتزوجت وكرهت فطلقت، على أنها تركت ولداً كأجمل ما يكون، وكان هذا الولد يعاني صراعاً نفسياً صامتاً، أحسه في قرارة نفسي، ولكن ماذا اصنع، والقضية غير مقدورة لديّ. (يشهد ربي). عانيت من البقاء على عشرتها ما عانيت وكانت الغريزة الفوارة مجنونة في حسابها الحيوي).
وتزوج الشيخ ثالثة وقد بلغ الخمسين من العمر، لان الحياة الزوجية هي الجوهر الماثل في الحياة المادية في ذات ظل وثمر .. وأعقب الشيخ سبعة ذكور هم (باقر ومرتضى وصادق ومفيد ومعز ومحيي ومعين) وستة من الإناث.


* من نشاطاته الاجتماعية والدينية *
ظل الشيخ محمد حيدر مفعماً بالحركة والنشاط أينما حلّ في الأماكن التي تواجد فيها، وبعيداً عن نشاطاته الأدبية والثقافية، كانت له إسهامات مهمة على الصعيدين الديني والاجتماعي، فقد لعب دور المصلح الاجتماعي في بعقوبة و جلولاء وتل محمد وكانت له مواقف مشهودة في تلك المدن، أما في الحلة فقد اتسع نشاطه بسبب طول مدة بقائه فيها، إذ أسس نواة لحوزة دينية اتخذ من مسجد أبي الفضائل جمال الدين احمد بن طاووس مقراً لها وتخرج على يده مجموعة من الفضلاء منهم الشهيد الشيخ حسن عوض الحلي والعلامة الشيخ رعد الخالدي وآخرون يحملون اليوم شهادات عليا في اختصاصات مختلفة. وكان بيته مدرسة لمجاميع أخرى تنهل من نمير علمه مقدمات علوم اللغة العربية والعلوم الدينية. ومن نشاطاته التي مازالت عالقة في أذهان الحليين تأسيسه (موكب أهل البيت) سنة 1970م في مسجد محمد بن نما الحلي، وكان انطلاق الموكب يبدأ عصر أيام الثامن والتاسع والعاشر من شهر محرم الحرام واستمر على عادته حتى سنة 1975م إذ منعت سلطات النظام البائد مظاهر العزاء الحسيني.
وكان الشيخ يقوم بنظم المستهلات الحسينية للموكب. وهنا لابد من الإشارة إلى أن السيد داخل السيد حسن أشار إلى بعض المستهلات التي نظمها الشيخ لموكب الناصرية في ذكرى أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) ورددت في كربلاء. واحتفظ بمجموعة من المستهلات وهي باللغة الفصحى.
ومن نشاطه الاجتماعي الكبير وخاصة في عقدي السبعينات والثمانينات، ولما كانت دائرة الضغط والجور والاستفزاز التي لحقت بالمؤمنين من أبناء الحلة، وما آلت إليه بعض العوائل من فقدان معيلها بسبب الإعدام أو السجن وغيره، كان الشيخ يبث أعوانه لمتابعة شؤون تلك العوائل وتقصي أحوالها وإيصال المساعدات العينية والمادية لهم بصورة منتظمة، وإرسال بعض مرضاهم للعلاج وتأمين الدواء الشافي لهم، أو قضاء حوائجهم عند دوائر الدولة المختلفة. ومن طريف ما يروى عنه انه كان يساعد بعض رجال الأمن ويمدهم بالمال وهو يعرف جيداً أنهم وضعوا لمراقبته ورفع التقارير عن تحركاته ونشاطاته داخل المسجد وخارجه. حتى يروى انه في محاضراته كان يغلق جهاز الصوت وهو يتحدث لفترات فلا يسمع من كان ينصت له خارج المسجد وعندما يسأل من قبل المقربين يقول أن الموجودين من رجال الأمن داخل المسجد لا يفقهون شيئاً ولكن خارج المسجد من يترصد أكثر وبدقة لكل كلمة. كان الشيخ محمد حيدر يتفقد الضعفاء والفقراء والمساكين في بيوتهم وأماكن عملهم مما جعله محبوباً لدى الحليين.


* الثناء عليه *
أثنى جميع الذين ترجموا للشيخ محمد حيدر في مؤلفاتهم المطبوعة أو المخطوطة، عليه بعبارات المديح والإطراء، مشيرين إلى بعض ما اتصف به من الصفات الحميدة والخلق الكريم، ومبرزين لجهاده الديني في الوعظ والإرشاد، ومواهبه الإبداعية في الشعر بخاصة والأدب بعامة، ودوره المؤثر في المجالس والأندية العلمية والأدبية.
وكنا قد قدمنا ثلاث شهادات بحق الشيخ محمد حيدر في أول هذا الديوان وهي شهادات مهمة إحداها من أستاذ له والثانية لمحب ومريد والثالثة لزميل عمر، وجميع هذه الشهادات أعطت صوراً مختلفة اتسمت بالصدق، واُطّرت بالوفاء، وكُتبت بنبضات قلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره. وهنا نقتبس بعض ما كُتب عن الشيخ الجليل.
قال الشيخ علي الخاقاني: ((محمد ابن الشيخ جعفر بن باقر حيدر، فاضل أديب، خطيب، شاعر، ... انخرط في زمرة الشعراء وقال الكثير من الشعر الجيد الممتاز، وفاق أقرانه وكانت لقصائده صولتها وجولتها. نشر أكثرها فـي الصحف النجفية، وألقاها فـي
الأندية والمحافل)).(1) ووصفه الشيخ عبد الحسين الاميني في الغدير بـ (الشاعر المبدع)(2)
وقال الأستاذ محمد حسين الصغير: ((محمد ابن الشيخ جعفر، أستاذ فاضل، شاعر ماهر، وأديب ملهم، شارك في اغلب المهرجانات الدينية والاحتفالات الإسلامية، يعمل الآن مرشداً دينياً في جلولاء، ويتمتع فيها بمكانة اجتماعية مرموقة)).(3)
ووصفه الشيخ محمد هادي الاميني بـ ((عالم متجدد في أسلوبه الشعري، متفنن وكاتب جليل وخطيب متكلم، وبطل من أبطال الجهاد الديني)).(4)
وقال السيد سلمان هادي الطعمة: ((كان الشيخ محمد رجلاً هادئ الطبع خلوقاً، طلق المحيا، كريم النفس، خطيباً مسترسلاً في كلامه ترسل الشيخ الوقور. ويتألق بتعبيره تألق الغادة الحسناء أمام المرآة. ومن خلال معاشرتي له عرفته فارساً من فرسان الشعر العربي، حارب بأسنة قلمه وبحور قوافيه التيارات المشبوهة والمعادية لأمة العرب والإسلام. وعرفت الشيخ محمد من ألطف أصدقائي روحاً وأطهرهم قلباً وأعذبهم لساناً، متمسكاً بالعقيدة والخط القويم الذي سلكه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وهو لم يتميز عن لداته وأقرانه إلا بحدة الذهن وقوة الملاحظة وكرم الخلق، وحسبك أن تعلم بأنه ائتم به جملة من أصحاب الصلاح في مسجد (ابن نما) وبحركته وسمو أخلاقه ونشاطه الجم، وأصبح هذا المسجد محجة يرتاده الشباب المؤمن في السبعينات والثمانينات، وتبنى العديد من المواقف الإسلامية متحدياً الأخطار التي كانت تواجه العالم الإسلامي حينذاك، ولكن نشاطه لم يرق للنظام البائد)).(5)
أما الحاج محمود حسان مرجان فقال واصفاً الشيخ محمد حيدر: ((كان واسع الإطلاع، غزير المادة جم التواضع، لا يمل القراءة والكتابة، له أسلوب أدبي في النثر جميل رصين، وقد منحه الله موهبة شعرية ساحرة سامية، وانعم عليه بخيال شعري عميق ينحو فيه منحى الفلاسفة والمتصوفين، فهو يتعمق في فلسفة الحياة وممات الإنسان وما بعد الموت. محمد حيدر وفيٌّ في صداقته، وصادق في علاقاته الاجتماعية، احبّ الناس وأحبوه، واحترم الناس واحترموه، انه موضع تقدير أهل الحلة جميعاً، لما يتمتع به من رفيع المزايا وجميل الصفات)).(6)

-----------------------------------------
(1) شعراء الغري: 11/162.
(2) الغدير: 8/ 391.
(3) فلسطين في الشعر النجفي المعاصر: هامش ص181.
(4) معجم رجال الفكر والأدب: 1/461.
(5) جريدة عروس الفرات ع 18ص5.
(6) الحلة أصالة وتراث: 149-150.

--------------------------------------------
وقال الشيخ حسن الشاكري انه ((مرشد ديني وخطيب وأديب، من أسرة في النجف الاشرف وسوق الشيوخ معروفة بالفضل والتدين والأدب ..)).(1)
إما الدكتور حسن الحكيم فيقول ((كان الشيخ محمد حيدر أحد أعضاء جمعية الرابطة الأدبية وممثل المرجعية الدينية في الحلة، قد عُرف بالفكاهة وسرعة البديهة)).(2)
وللشعر نصيب في ذكر الشيخ محمد حيدر وإبراز محاسنه وما كان يتصف به من فضل وتقوى .. فهذا الشاعر الحلي فرهود مكي في أرجوزته الطويلة عن الحلة الفيحاء يعرج فيها على الندوة المرجانية وروادها فيذكر الشيخ واصفاً إياه بهذه الأبيات:

أولهم وشيخهم محمد
وهو الفقيه الورع المسرد
جج
بالفقه نال العز والتجلّه
رزقاً وتكريماً لأهل الحله

فهو اخو اليراع والمحابر
من يومه وهو اخو المنابر

تعجبني أفعاله النواضر
وظلها الوارف في الحواضر

ينمى إلى الأحرار آل حيدر
وهو كمصباح لهم ومفخر

فشب في سوق الشيوخ نبعه
وفي ذرى الفيحاء عاد نفعه

(والعالم العامل ابن نفسه
أغناه جنس علمه عن جنسه)

سوق الشيوخ استبشرت بمغر سه
والحلة الفيحا زهت بمجلسه

لابد للشيخ جميعاً منهما
ولاغنى لكل قوم عنهما

ومسلك الشيخ هو العدالة
بحكم المعقول لامحالة

هذا بسيط فضله لا كله
فكم له وكم له وكم له


ونلحظ ما ورد في باب المراسلات من ثناء ظاهر بحق الشيخ من جميع من راسله من الشعراء وغيرهم. لذا نكتفي بالعودة إلى هذا الباب للإطلاع على ما قاله الشعراء في سيرة الشيخ وأسرته ومآثره، وما جاشت به مشاعرهم من فيض الود والإخلاص لواحد من أترابهم الذين لمسوا فيه كل معاني الصداقة والوفاء، ومن أولئك الشعراء السيد محمد علي النجار والمرحوم جميل حيدر والمرحوم عبد الحميد السنيد والمرحوم فرهود مكي علوان والمرحوم فرهود المعروف والمرحوم صبري عبد الرزاق السعيد والمرحوم هادي جبارة الحلي والسيد عبد الستار الحسني البغدادي وغيرهم.

------ ------------------------------------
(1) عليّ في الكتاب والسنة والأدب: 5/283.
(2) النجف الاشرف والحلة الفيحاء: ص77.
------------------------------------------

* المنتديات والمجالس الأدبية *
بحكم ما اعتاد عليه لشيخ محمد حيدر في بيئته الأولى من حضور فعاليات المجالس الأدبية والعلمية التي كان انعقادها يومياً في محيط أسرته ومدينته. فقد ظل هذا الهاجس ملازماً له في حلّه وترحاله، فكان دائم البحث عن منتدىً يضم أرباب الفضل والأدب، ومجالس يكون فيها التراث والعلم والكلمة الطيبة والمشاعر الصادقة ملاذاً تأنس إليه النفوس وتطيب الخواطر وتعبق الأرواح بشذاه.
ففي النجف الاشرف كانت لجمعية الرابطة الأدبية ورئيسها الشاعر محمد علي اليعقوبي دور مهم في إذكاء جذوة الأدب وإشاعة روح الثقافة من خلال ما تقوم به من جهد مؤثر في مهرجاناتها الشعرية وما تحفل به من أسماء لامعة في عالم الشعر والأدب. كان للشيخ محمد حيدر حضور فاعل فيها كعضو من أعضائها .. فضلاً عن (جمعية التحرير الثقافي) و (أسرة الأدب اليقض) التي أسسهما الشاعر جميل حيدر في مطلع الخمسينات وقبلهما (هيئة الشعراء الحسينيين). وما حفلت به تلك المنتديات الثقافية من نشاط أدبي متميز كانت وغيرها متنفساً رحباً للشيخ محمد حيدر يذيع ما انفرجت به أساريره من الكلم الطيب والسحر الحلال وبما ينشره من مقالات تعبر عن توجهه الإسلامي ودعوته إلى إقامة مجتمع فاضل يُبعث فيه تراث الأمة بقيمه العليا.
إما في الحلة فقد استطاع الشيخ محمد حيدر أن يثير لهيب المشاعر فيحرك أوتار القلوب لتعزف في يقظتها انغاماً حلية أصيلة، حتى كانت مجالسه تمارس نشاطاً يومياً متنوعاً. جمعت أعضاءها الكلمة فدب في أوصالها جرس الموسيقى لتطرب الأسماع قصائد رائعة .. إنها ندوة القلم .. تلك الندوة التي أسست في مسجد ابن نما برعاية الشيخ آل حيدر ومن أعضائها الشاعر السيد محمد علي النجار والسيد عبد الرحيم العميدي والسيد حازم الحلي والسيد موسى بهية والدكتور محمد خليل مراد وسامي الخفاجي وعبد الخضر حمزة وآخرون من أجيال مختلفة ومدارس وأنماط شعرية متعددة .. جمعهم حبهم للشعر والأدب فتآلفت قلوبهم وانسجمت أرواحهم.
خلفت هذه الندوة مجموعة طيبة من المنجز الشعري لجميع أعضائها الحليين وروادها من الشعراء غير الحليين، أمثال جميل حيدر والسيد عبد الستار الحسني والشيخ عبد الحميد السنيد والسيد جودت القزويني.
وخلفت ايضاً مجموعة من الطرائف .. تظهر مدى تفاعل وانسجام أولئك الثلة من الرجال الذين لم تكن لهم مطامع في شيء ولا غاية سوى الأدب والشعر. ابتدأت الندوة بالانعقاد في كانون الأول سنة 1968م واستمرت حتى سنة 1973م حيث أخذت حلقاتها بالانفراط لأسباب عديدة.
لم تكن لهذه الندوة طقوس متعارف عليها سوى أنها تعقد تلقائياً بعد صلاتي المغرب والعشاء فيتسامر الحاضرون. ووجوه روادها قد لا تتكرر يومياً إلا عدداً قليلاً منهم، فهي متجددة دوماً، طافحة بالبشر والمسرة تتحدى آلام ذلك العصر وهموم الناس فيه، فتنشر الأمل في النفوس وتعيد البسمة للشفاه ويكون الشعر هو الحكم في القضايا والمواقف كلها.
وإذا كانت هذه الندوة قد افلت، فأنّ ندوة أخرى قد ولدت وهي الندوة المرجانية .. تلك الندوة التي ((جمعت من الأخوان أصفاهم وضمت من الخلان أوفاهم، خبروا الحياة فاستزادوا من تجاربها ونسجوا من أيامها بُرد الصبر المطعّم بحلاوة الحديث ونقاء الضمير وصدق الحديث وعفة اللسان ورجاحة العقل)) أسماء كثيرة كان لها حضور فاعل يتقدمهم الشيخ محمد حيدر الذي ((طالما ابتكر سبب المنافسة بين الشعراء وطالما وضع القصيدة الفريدة المحركة، كي يجاريها ويباريها الآخرون)). وشكل مع السيد محمد علي النجار ثنائياً مهماً في المراسلات الشعرية خاصة. وآخرين منهم الشاعر فرهود مكي والشاعر فرهود المعروف والشاعر صبري عبد الرزاق والسيد عبد الرحيم العميدي والشاعر هادي جبارة.
لقد حرك الشيخ الجمود الأدبي في بعض مفاصل المجالس الحلية فكان له الفضل في دفع حركة الإبداع الشعري الحلي مما خلق لنا تراثاً شعرياً ضخماً لعدد من الشعراء الحليين لم يجمع اغلبه بعد. ولم تنقطع الندوة عن استمراريتها إلا أن غياب الشيخ محمد حيدر ورحيله إلى جوار ربه شهيداً مظلوماً، ورحيل عدد من الشعراء له اثر واضح على أعضاء الندوة وراعيها الأديب الحاج محمود حسان مرجان الذي تأثر تأثراً كبيراً لفقد حبيب غالٍ وصديق عزيز. وقد استمرت الندوة في عطائها حتى مطلع عام 2006م إذ غادر الحاج محمود إلى الأردن.
ومما نتج عن تلك الندوات أدب كبير ورفيع، لو جُمع ودُرس لاطلع القارئ على تاريخ حيّ لعقود من الزمن يؤرخ بصدق المشاعر ليس للشعراء فحسب بل امتداد على مساحة كبيرة من الهموم والآمال لواقع عاشه الناس آنذاك.
فديوان الشعر الكبير الذي خلفته تلك الندوات مازال بعيداً عن أيدي الدارسين والباحثين، وحريّ به أن يُسلطّ الضوء عليه فهو خزين معرفي وأدبي.



* شاعريته *
نبغ الشاعر في أسرة اهتمت بالأدب ومارست الشعر في مجالسها وأنديتها واختلف وهو في ريعان شبابه حين كان طالباً في النجف إلى أندية ومجالس النجف يشارك في صولاتها وحلباتها شاعراً مبارزاً صقل موهبته وثقّف ملكته الشعرية بفضل ديمومة تواصله الإبداعي. وقد عده الأستاذ عبد الكريم محمد علي في الجيل الثاني من تاريخ الناصرية الأدبي وحدده بقبل وبعد ثورة مايس عام 1941م حتى ثورة 14 تموز 1958م وما بعدها مع مجموعة من الشعراء منهم محمد جواد حيدر وسلمان عبد الرحمن واحمد محمود الفرج ومعن العجيلي وغيرهم.(1) فقد ((نظم الشعر وهو لم يتم العقد الثاني بعد حتى استوى شاعراً يشار إليه بالبنان)).(2)
وكان الشيخ قد ((طرق أكثر بل كل أبواب الشعر، فكان شعره مشرق العبارة، رصين الديباجة، رقيق الحاشية. وشعره نابع في الدرجة الأولى من التزامه الديني، جمع بين السلامة في التفكير والسلاسة في التعبير)).(3)
وتأتى هذا الالتزام في الولاء المطلق لأهل بيت النبي (عليهم السلام) والعمل بتراثهم الغني والاهتداء بمأثور هم في طبيعة ألفاظه ومفرداته وابتعادها عن البذاءة والفحش، بل لم نجد في شعره هجاءً مقذعاً أو غزلاً فاحشاً أو قذفاً نابياً. فقد عالج الشاعر قضايا كثيرة تهم الإنسان والوطن وتعبر عن آلام وآمال العرب والمسلمين .. فهو مدرك أن الشعر يخدم الإنسان في إيضاح الحقيقة وتعرية القيم اللانسانية. وقد تجلت قصائده ((بكل وضوح في سلاسة الأسلوب ومتانة السبك ورقة المشاعر والخيال الواسع الخصب وحسن التصوير. ويمكن القول ان قصائده شجرة أتت أكلها كل حين وزهت أوراقها ونضجت ثمارها دانية القطوف، لذلك فهي تكشف النقاب عن صدق حديث وذوق أصيل وتنم عن طيب وسرعة خاطر)).(4)
فهو في شعره فلسف الحياة وتأملها بعين ثاقبة مؤمنة، لم يجنح فيها نحو القوالب الجامدة والشعور الآيس، ولم يألف أغراض شعرية بعيدة عـن الشرع الإسلامي. مستثمراً
المناسبات المختلفة في التعبير عما يجول في خاطره وضميره، وظل قلقاً يعاني أزمات تتراكم في أحوال الناس ومعاشهم، لكنه ظل يغرد بكل ما أوتي مـن قـوة ملمحاً ومستعيراً

--------------------------------------------
(1) تاريخ مدينة سوق الشيوخ: ص170.
(2) علي في الكتاب والسنة والأدب: 5/283.
(3) الحلة أصالة وتراث: ص150.
(4) جريدة عروس الفرات: ع19 ص5.
-------------------------------------------

ومكنياً لما يعبر عن نفسه:

والبلبل الغريد ليس يضيره
في لحنه قفص عليه يقفل
جج

فكان شعره ينساب انسياب الماء في غدير صافٍ، عذباً في كلماته، عذباً في موسيقاه. ((سهل النظم، جيد السبك، طويل النفس، يَنْجِدُ فيه ويُتْهم)).(1) ويكفي أن نقول مع استأذنا الفاضل السيد عبد الستار الحسني بحق الشيخ محمد حيدر انه ((شاعر البديهة والارتجال). ولسنا هنا بصدد دراسة شعره ،فديوانه يستحق وقفة تأمل لما فيه من شاعرية طافحة بالإيمان والمحبة والوفاء وسجل حافل بالأحداث والمواقف والطرائف.
* ديوانـــه *
لم يكن للشيخ محمد حيدر ديوان مستقل وان كانت بعض ابوابٍ أراد لها الشيخ أن تشكل ديواناً متكاملاً غير أن إرادة الله سبحانه وتعالى أبقت أشعاره المدونة مبعثرة في أوراق كتبت بخطوط مختلفة ولو هيئ للشيخ أن يعيد ديوانه بخطه الجميل لسهل عليّ الكثير مما عانيت في جمعه وتنظيمه وترتيبه وقراءة اغلب قصائده التي كتبت بخط ولده المرحوم آو بخطوط أخرى.
قمت اولاً عندما أحسست في نهاية التسعينات بضرورة جمع ديوان الشيخ فعمدت إلى بعض المجلات لتخريج أشعاره المنشورة وجمعها ثم نسخت ما جمعه الحاج محمود حسان مرجان في الصفحات المرجانية وغيرها من شعر للشيخ فكانت حصيلة لابأس بها من القصائد. وبعد سقوط النظام اتصلت ببعض أفراد عائلة الشيخ وإخبارهم بما نويت القيام به لتخليد هذا العلم في أثر يخلده فلم يبخلوا بما ملكوا من تراثه الشعري ، فتم استنساخ كل الأوراق التي بحوزتهم وإعادة الأصول كاملة لهم للاحتفاظ بها. وشرعت بعد التوكل على الله بالعمل المتواصل ولا يخفى على اللبيب من الجهد المضني الذي رافق نشر الديوان وما واجهته من مصاعب جمة في التحقيق والتنضيد والتصحيح .. ولم يبخل من استعنت بهم في المراجعة فكانوا يداً معينة لعمل كبير أحسست عند إتمامه أنني وفَيَت بعض دين لرجـل أحبه الحليون قبل غيرهم وتأثروا عليه بعدما أعدمه طاغية العصر وأذنابه دون ذنب أو جريمة كان قد ارتكبها، وظلوا يرددون أشعاره في مجالسهم ومحافلهم الخاصة مثنين ومترحمين عليه.

(1) مختصر تاريخ آل حيدر (خ).
أما الديوان فقسمته إلى أبواب هي:

1. مديح ورثاء أهل البيت (عليهم السلام).
2. الاخوانيات.
3. المراسلات.
4. في رثاء زوجته.
5. المتفرقات.