مبادرة مهمة وجديرة بالتقدير قام بها فاضل السلطاني، بتقديمه خمسين عامًا من الشعر البريطاني (1950 - 2000) وترجمة رموزها الأساسية إلى العربية. فهذه الفترة المخضرمة - الجديدة تكاد تكون مجهولة من القارئ العربي. ويبدو من القصائد المختارة التي شملت هذه الفترة أن المترجم والمقدم السلطاني عرف، وبحساسية شديدة وبشفافية، كيف يختار من القصائد ما يشير إلى العلامات والتحولات التي طرأت على الشعر البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولدى قراءة هذا المجهود الكبير نرى كم نجح فاضل السلطاني في التقاط اللعبة الشعرية لهذا الكم من القصائد، بتعددية أساليبها وتنوع اختباراتها ووعورة بعضها.
الكتاب بعنوان خمسون عامًا من الشعر البريطاني: 1950 - 2000، صدر عن دار المدى، بطباعة تليق بالشعراء المترجمين وبقصائدهم.
إنها إضافة جديدة يقدمها السلطاني لجهود الترجمة إلى العربية، والتي تلعب دورًا أساسيًا في التعرف على الشعر الآخر، وكذلك في تطوير التجارب الشعرية العربية، عبر تفتحها على الإنجازات الشعرية العالمية.
هنا نماذج مختارة من القصائد المترجمة.
ب.ش.
* * *
رؤيا ودعاء
ديلان توماس (1914 - 1953)

من
أنت
يا من تولد
في الغرفة المجاورة
الأكثر صخبًا من غرفتي
حتى إني اسمع الرحم ينفتح
والظلام يجري على الروح والابن المولود
وراء الجدار نحيلاً مثل عظام طائر صغير؟
في غرفة الولادة الدموية التي تجهلها
حروقٌ وتحولات الزمن
حيث بصمة قلب الإنسان
لا تخضع للتعميد
الظلام وحده
يمنح بركته
للطفل
البريء.
* * *
الطريق
توماس بلاكبرن (1916 - 1977)

إنه شيء غريب،
قلت في نفسي،
رغم أن نصفه يتمدد الآن،
خلف ظهري،
على رمله وحجارته.
قلت في نفسي، وأنا أمضي،
ما يزال الكثير من الحياة
فهل ينبغي أن نخضع كل هذه الاتجاهات لأحكام الطريق؟
شيء غريب
ألا أتخذ السبيل الذي يلوح على جانب هذا الطريق،
ما دام ليس هناك سياج،
كما لو أن هدفًا نهائيًا أمامي
انطوى على كل الحقيقة،
أم أنني سويت
مع الصخور النائية التي كنت أمشي عليها؟
مرة بالتأكيد
أسرع المسافر في كل سبيل
لم تطمره الريح
لكنه كان يكتشف دائمًا
أن كل بحث جديد
يدور راجعًا إلى خط سيره القديم
لم أستطع خلال تلك الطرق الدوارة
أن أحيد عن نفسي
أو عن رسل الطريق،
وحتى لو كان هناك ضوء
يتكشف على جانبه،
سأحجم عن ارتداد سبله الملتوية الخضر.
* * *
الخريف المحتضر
لورنس دوريل (1912 - 1990)

الجزر يصدّها الماء،
مصبات من طين وذهب،
قوس بلا دخان في سماء لاتينية،
نجمة واحدة، عمرها أقل من أسبوع،
القاطرة، أقودها الآن من الرسن.
وخزة من مخدر في الذراع،
بينما يرتدي البحر حراشف برونزية
ويسكن في الهدوء.
الحوار القديم نفسه يبدأ بيننا ثانية:
لكن الربيع ينضج الآن.
- لا أحد منا سيشهده -
وتزهر الدنيا بينما أرجل حمام
تدوس في الطين
القبلات التي حصلنا عليها،
أو اعتقدنا ذلك:
الأخذ والعطاء،
الثروات المكدسة في مجتمع الحب هذا
كل شيء انتهى
في دورة زفرة كاملة.
* * *
أنبوب ماء
تشارلز توملنسون (1929 - )

دعه واقفًا
ضيفًا حجريًا
في أرض ليست مضيافة
بكلامه، كلام البئر...
ومنبعه المفتوح
الحامل جوهره.
ببركته التي لا بد أن تكون
ندًا لقوة التيار
دع نغمة فلوت الماء
تفيض، بتقريعها الرقيق،
على حصاة الأنبوب
* * *
أصابع
تيد هيوز (1930 - 1998)

من سيتذكر أصابعك؟
حياتها المجنحة؟
طارت مع الضوء في عينيك.
توقع أصابعك على البيانو
أغاني جاز من الأربعينات، وتؤدي ألعابها البهلوانية المعتادة،
الخالية من التعبير.
كنت مشغولة بايصال أصابعك إلى المفاتيح.
لكن حين تكلمت،
وحين عكست عيناك زهوك
تماوجت أصابعك، ورجعت ضربات كأنها الباليه
تذكرت طيورًا استوائية تتواثب وتتقلب
في لعبة استعراض، مبتدعة أشياء غريبة في الهواء
ثم تسقط فوق التراب.
كم غالت في الرقص مثلك!
بأية رشاقة! لمسات عملية، دقيقة جدًا
فظننت أنها تداعبك، وتضع أحمر شفاه
* * *
عيون جديدة كل سنة
فيليب لاركن (1922 - 1985)

عيون جديدة كل سنة
تجد كتبًا قديمة هنا
وكتبًا جديدة أيضًا
عيون قديمة تتجدد
فيتوحد الشباب والكهولة
في هذا البيت
مثل الحبر والورقة
ليستا عملة جديدة
* * *
البحر المتوسط
ار. أس. توماس (1913 - 2000)

الماء هو نفسه
الانعكاسات هي المختلفة
"فيرجيل" نظر في هذه المرآة
أنت لا تعتقد ذلك
جوهرة الضوء تعلق
في حناجر الأسماك
شقها، ستجد عملة رديئة
تدفع بها ضرائبك
حشرات الزيز تغني
لكن البحث عنها بين البلوط الأخضر
شبيه بمحاولة ترجمة قصيدة
إلى لغة أخرى
* * *
نواة الخوخ
داني آبس (1923 - )

لا أزور قبره، إنه ليس هناك
لا يمكن سماعه. لا يمكن الوصل إليه.
إني افتقده هنا،
وأنا أرى هنا الشعر،
على ظهر كرسي،
على مشبك النار، حيث تلظى السيخ،
وحيث اشاهد خوخة
في الوعاء المزركش
في تلك الليلة اشترت له زوجته خوخًا،
فاكهته المفضلة
أشعلت الضوء العليل،
وراح الفم الجاف المتراخي
يمتص، ويمتص، ويمتص،
وهو يغمض عيونه المائية
- ربما من أجلها -
حتى أشرقت مثل الدم.
* * *
طرابلس في الربيع
لويش تشالونر (1919 - )

كان الشتاء ما يزال يتقطر على جروحها
حين رأينا مدينة الأشجار للمرة الأولى.
السقوف المنهارة فاغرة فاهًا
في السماوات التي تبكي،
الجدران المتناثرة مبتلة بالدم والمطر،
والنوافذ العمياء تحدق
في البحر الحزين
مروعة كالخوف في عيون الأطفال
مشاهد أكثر كثافة من أسى
يعلق في ذكريات جندي عابر
الأجراس التي دقت في "زافيا" من أجل الموتى،
القاذفات، والقذائف على "كورنين"
الأطفال الذين يستجدون الخبز على قارعة الطريق
رعب رهيب رأيناه لا يسمى
سيجعل الانتصار قاتمًا
لولا أكاليل الترحيب الفرحة
في الأشجار المزهرة
* * *
هذه القصائد
جون جرمين (1911 - 1944)

يا من قد تقرأ كلماتي
وأنت جالس أمام المدفأة في المساء
كيف أجعلك ترى الصحراء الجرداء
في السطور المطبوعة الناعمة؟
اصغ: هذه القصائد لم تكتب في الغرف
وإنما فوق الرمل الفارغ
حيث يجول عربي بلا بيت
في أرض مجدبة
لم تكتب فوق طاولة
والستائر الرقيقة مسدلة،
إنما على الضوء الذي يبعثه
الغسق أو الفجر
لم تعرف السلام عند ولادتها
ولا هدأة الشفق في الأجنحة،
وإنما رعد القنابل، وصليل البنادق
والأشياء المدمرة.
تونس، آذار/مارس 1943
* * *
غربان الزرع
مايكل هابرغر (1924 - 2007)

رحلت، كما ظننت،
لم اسمع عنها منذ سنوات،
رحلت مثل النقار الأزرق،
لاقط الذباب،
مثل حجلات التل الذي اجتاحته الجرافات
لكني أنا الذي أرحل الآن
بينما تعود هي، أو أنها
لم ترحل قط
إنها تتقافز
أو تنقر غصون شجرة
الدردار العارية
نسيت التغيرات، أشغال المزرعة
جثة الغراب في خزان الماء،
عش الغراب،
عظام الغراب المتيبسة،
الريش المتيبس الذي حشا المداخن -
لم يعد هناك منجم لتنظيفه -
سمعتها، رأيتها ثانية في الهواء البارد الصافي
ثم رحلت
وبذهابها انتهت مهمتي
بعدما أخذت معها
حصاد ثلاثة آلاف سنة من الطقس
السخام الفضي
هذا ما تركه ضجيجها فوق الأشجار.
* * *
أيتها الغيمة الناصعة
كايلن رين (1908 - 2003)

أيتها الغيمة الناصعة
يا جالبة المطر إلى الحقول البعيدة
وإلي
أنا التي لن أشرب من شلال الماء ذاك،
ولن أشعر بالضباب الرطب على وجهي
الذهب الأبيض والوردة،
رؤيا الضوء
المعنى والجمال البديعان
ذلك المعنى ليس مطرًا
وذلك الجمال ليس ضبابًا.
* * *
وطن من طيور
بيتر راسل (1921 - 2003)
(إلى اكتافيو باث)

وطن من طيور.. أين يكون؟
إنه وطن...
لوحة زيتية،
منظر طبيعي،
مكان كنا فيه ذاكرة دقيقة تبتكر نفسها،
ولادة أبدية
تديم طريقًا أبديًا
نحو حدائق الفردوس
الوطن الحقيقي الوحيد
هو نحن
* * *
سفر
شيموس هيني (1939 - )

الثيران تسند رؤوسها
تحت شمس الظهيرة
والبطيخ يرصع التلال كالنحاس
من يقرأ في المسافات يقرأ أبعد منا:
أطفالنا النائمون، والغبار المقيم
في عشب محروق
* * *
حديقتان
هنري غراهام (1930 - )

هناك طير أسود بعينين،
يشبهان سطح بحيرة،
يسخر من طفل حزين.
عينا الطفل تحتويان السماء،
الغيوم، الفضاءات الشاسعة،
للطفل دائمًا الضحكة الأخيرة.
أمس، قطعت حشرة إلى نصفين،
ثم انصرفت.
هذا الصباح،
عندما نظرت خارجًا،
شاهدت طفلاً
يحاول بالصمغ
أن يلحم النصفين.
* * *
كنت تلبسين الأزرق
توم راوث (1940 - )

الانفجارات أقرب هذا المساء
القطار الأخير سيغادر إلى الجنوب
السادسة غدًا.
سيكون الإعلان عنه بلغة مختلفة.
امضغ طرف علبة الكبريت
طرفا إصبعي وإبهامي دبقان،
سأنتظر عند المحطة،
ستبعثين بملاحظة
سأقرأها،
ستمطر،
ظلانا في الضوء الالكتروني
عندما كنت في الثامنة
علموني الكتابة الحقيقية:
أن أمزج الحروف،
اصغ، قلت لي،
وفضلت أن انظر للبحر.
كل شيء يتوقف هناك عند زوايا غريبة
فقط لتفسده القوارب...
أنت تنظرين.. بعيدًا
* * *
قصيدة من روسيا
ريتشارد فكين (1947 - )

دع هذه الكلمات تمضي
فلن يسمعها أحد.
كل شيء هادىء في العالم
رغم أن الموسيقى تصدح بمرح
لا حاجة لايقاعات أخرى
فغير المسموح به ينفجر بطريقة أخرى
من خلل ذبول الأيام العميق
راقصًا أمام عينيك الأكثر مرحًا
والآن، الرسائل ترسل...
ترى أي شيطان قذفني
إلى هذه الأراضي البعيدة؟
* * *
من نافذة الليل
دوغلاس دون (1942 - )

الليل يهذر مع كوابيسه
الأطفال يبكون في البيوت المزدحمة المغلقة
رجل يتعفن في شخيره
بخطى هادئة يتفحص رجال الشرطة الأبواب.
خطى بشر تحت أضواء الشارع
المخمورون يعودون من الحفلات،
طنين قنان فارغة، وأغان قديمة،
النساء الشابات يعدن إلى البيوت.
البهجة في دواخليهن تصيبني بالصمم.
إنهن يخببن كأفراس صغيرة
ويختفين في الأفرشة البيضاء
عند حافة الليل.
النوافذ مفتوحة في هذه الليلة الحارة
والساهرون، المدخنون في الظلام،
يشعلون أضوية حمراء صغيرة عند أفواههم،
وهم يعدون سنوات الزواج.
ترجمها إلى العربية: فاضل السلطاني
*** *** ***