في معنى هوية بغداد




خالد السلطاني



تثار بين فترة وآخرى، قضايا هوية المدن، باسلوب يشي الى تعتييم تلك الهوية، اكثر بكثير منه الى تكريسها. ومرد ذلك، في رأيي، يعود الى أُحادية الطرح وأُحادية المرجع في آن؛ اللذين يحصران رؤية الهوية اياها في مفهوم "التراث" لوحده، التراث الذي يـُقدم لنا بصيغته الثابتة، الجامدة، الماضوية، غير القابل للتحول ومعادٍ بجوهره الى التغيير. ومثل هذه الرؤية، كما هو واضح، لا يمكنها ان تنصف التراث، مثلما هي تعمل على نفي مفهوم الهوية، التى بواسطتها تكتسب المدينة صورتها ويستحضر"اميجها" في مخيلة قاطنيها وزوارها. وليس مصادفة، ان تعتمد النزعات الفكرية الشمولية والسلفية التائقة للسلطة، او المتحكمة بها الى تكريس معنى هذا المفهوم في الخطاب. بمعنى آخر، لا يمكن ان تظل هوية المدن عموماً، وهوية بغداد على وجه الخصوص محددة فقط في تصورات ماضوية تمثلها اشكال ثابتة تستل بمعزل عن زمانها وحتى مكانها، لتفضي اخيرا بمثابة المرجع الوحيد الاوحد لمفهوم هوية بغداد. ولئن تم تقديم مدلول التراث بمعناه الثابت، والساكن ابان الحكم الشمولي البائد، بأنه، في معنى من المعاني، سلطة آخرى مضافة، تقف في وجه الابداع والتغيير؛ فان كثراً، مع الاسف، من رجال الطبقة الحاكمة اليوم، لا يزال يتعاطى "شعبويا" مع تلك المفردة، ويتوق الى تمثيلات لها، تتناغم هيئاتها مع تصورات رائجة في المخيال الشعبي.
يتعين الانتباه، بأن مفهوم هوية المدن يكتسب مصداقيته، (وحضوره ايضاً)، جراء الاعمال المعمارية والتخطيطية المتنوعة والمتشعبة، والتى ترمي في محصلتها الى تلبية متطلبات المواطن الانية : سكنة تلك الحواضر؛ وتحقيقها بصورة متوافقة مع استحقاقات العصر الذي يتعايش معه ذلك المواطن. وبالتالي تغدو هيئات الاعمال المنجزة(والتى ستنجز لاحقاً) بمثابة مصدر ومنبع لرموز المدينة الشاخصة، ومن تلك الرموز سيبرز الامثل والاكمل والاعمق لتمثيل طابع المدينة و"هويتها" المستحضرة مع اسمها، غير القابلة للنسيان.
من هنا مشروعية التأكيد بان مفهوم "هوية المدن" (وهوية بغداد ، بالتبعية)، هو مفهوم دائم التشكل، لانه دائم الحركة. وإذ عبر هذا المفهوم عن نفسه بتجسيدات محددة بفترة زمنية معينة فانه سرعان ما يجد له تجسيداً آخرا، وتمثيلا مغايرا في هيئة جديدة مبتدعة إن كانت انجازاً معمارياً ام نجاحاً تخطيطياً. وباختصار شديد فان هوية بغداد يتعين ان تكون مفتوحة على آفاق معرفية واسعة، وان تكون متواصلة مع بيئتها، وان تكون حيوية متجددة، والمهم بانها وليدة الابداع، الابداع المعماري والتخطيطي الذي لا يعرف الحدود. ذلك الابداع المكرس لتقصي اساليب ناجعة كي يمكن ان تكون حياة ومعيشة الساكنيين مفعمة بالراحة ومليئة بالاطمئنان والمسرة. لكن الاهم في كل ذلك بان هوية بغداد يتعين ادراكها باقتران مع مفهوم واسع متعدد الجوانب والانشطة. وتعـّد حماية موروث البيئة المبنية والحفاظ عليها كأحدى فعاليات وانشطة ذلك المقهوم المتعدد، ولا يمكن ان تختزل به. بل ان الفهم الشائع، الذي يقتصر معناه على مثل تلك الفعالية في تحديد الهوية، سوف يفضي لا محالة الى تعتيم هوية بغداد ويربكها ويجعل من تلك الانشطة الحفاظية شأناً نخبويا ومتعاليا ينأى بعيداً عن مهام هوية المدينة الحقيقية، ويخل اخلالاً واضحاً بتراتبية وظائفها الموضوعية.
وتظل الهوية، بمعناها الشامل، وبضمنها بالطبع، هوية المدن، تظل، ولا بأس من التكرار، تمثل صيغة ابداعية معاصرة وحتى مستقبلية، أكثر منها حدثاً ماضوياً. انها تتشكل وتتمثل طبقاً لسيرورات المدينة المستمرة، المدينة التى تحنو على سكانها، هم الذين تتبدى محبتهم لها عبر رمز تنتقيه الذاكرة الجمعية من رموز بيئتها المبنية، ليغدو في النتيجة تعبيرا عنها... وهوية لها.
مرة كتب "أدونيس" مايلي" ... يمكن القول إن الهوية ليست في ما يثبت بل في ما يتغيـّر ... انها تتجلى في ، لا في . انها في التفتح، لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الابداع لا في الاجترار..".
ومن الصعب بمكان، عدم الاتفاق معه!.