أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر

والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والذعة، وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً يتنزل منزلة الطبيعة. وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم. فهم دائماً يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، وبتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئاً من أمر أنفسهم. وذلك مشاهد بالعيان حتى في معرفة النواحي والجهات وموارد المياه ومشارع السبل. وسبب ذلك ما شرحناه. وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقاً وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة. واعتبر ذلك في الأدميين تجده كثيراً صحيحاً. والله يخلق ما يشاء.