المضايف العراقية الجنوبية .. سحر البساطة

http://img355.imageshack.us/img355/5...7b48027fn5.jpg

تتحمل العشيرة طائعة مسرورة عبء بناء المضيف فيساهم الجميع فيه مهما طوَلَ حجم هذه المساهمة.

يتوزع العمل عموماً على شكلين الأول هو الجانب التقني والهندسي الذي يحتمه البنّاء وعادة ما ينتدب شخص واحد لهذة المهمة، وهو الوحيد الذي يتلقى أجراً مقابل جهده، وقد اشتهر في هذه الصنعة العديد من الحرفيين المهرة مثل "جاسم بن محمد البهادلي"، "طلال بن حتيته الدهامي"، "شدّاد بن حتاجه الكعبي"، و"الغابشي الزيداوي"، و"مريوش بن بدن بن شاطي الدهامي" و"اسماعيل بن حجي عطية الماجدي" وهم المسؤولون عن بناء المضايف على دجلة وفروعها. أما الثاني فهو عمل هامشي يعرفه الجميع ويتم باشراف البناء.

تسبق عملية البناء عملية جمع القصب التي تطول وتقصر تبعاً للجهد المبذول في جمعه ولقرب أو بعد المكان المنوي اِقامة المضيف عليه من المساحات التي يتواجد فيها القصب بوفرة، فضلاً عن نوع القصب الذي لا يتواجد الا في مناطق معينة من الأهوار، وهذا لا يحدث الا مع كبار الشيوخ خاصة شيوخ "البو محمد" الذين يبالغون في اضافة لمسات جمالية مّرة، واشتراطات تخص المتانة مّرة أخرى.

عادة مايكون عدد (شِِِِباب)(شبة والجمع شباب معنا حزمة من القصب تكون بمثابة العمود الذي يرفع السقف ويقع عليه ثقل البناء) المضيف وترياً نظراً لقداسة العدد الوتري دون الشفعي عند المسلمين فهو اِما خمس (شِباب)، وهو ماتحويه أصغر المضايف، فليس هناك مضيف بثلاث (شِباب)، او سبع أو تسع او اِحدى عشرة (شَبَّة) وهو العدد الذي درجت عليه مضايف محافظة ميسان. يجب أن تكون المسافة بين (شَبّّة) وأخرى ثابتة في المضيف الواحد، والشيء الوحيد الذي يلزم البنّاء في تحديد طول المضيف هو رغبة صاحبه فقط ، ومع ذلك فلا وجود لمضيف يزيد طوله على تسعين قدماً. ترتفع المضايف على دجلة الى ثمانية عشر قدماً بينما لا يزيد ارتفاع مضايف الفرات على خمسة عشر قدماً تبعا لطول القصب المتوفر في المنطقتين.

ان عدد المساهمين في بناء المضيف مرهون بعدد (شِبابه)، و(الشَبّّة) الواحدة تحتاج الى رجلين على الاقل.

فالمضيف ذو التسع (شباب) يحتاج الى ما لا يقل عن عشرين رجلاً، يبدأون عملهم من الصباح الباكر الى العصر مدة من الزمن قد تصل الى الشهر. يتحمل صاحب المضيف مسؤولية اطعام ابناء عمومته وجيرانه المساهمين في البناء مهما طالت، وغالباً ما تحتوي وجباتهم على اللحم أو السمك كتقليد ثابت.

لا شك ان اتقان عملية بناء المضايف تقليد موغل في القدم يعود الى آلاف السنين، الأمر الذي ينسحب على كثير من مفردات الحياة في وسط وجنوب العراق كصناعة المشاحيف وآلات صيد الاسماك والطيور وغيرها. هذا ما اكدته اللقى والمكتشفات الاثارية السومرية وألاكدية والبابلية التي تصّور أبنية تشبه تماماً المضيف الحالي وكذا الامر بالنسبة للمشحوف وغيره .

يمّر المضيف، الى ان يأخذ شكله النهائي، بالمراحل الآتية:

http://www.aawsat.com/2009/04/26/ima...ye1.516693.jpg

1ـ مرحلة تهيئة المكان، فيختارونه مرتفعاً قدر الإمكان نظراً للتهديد الدائم الذي يشكله ارتفاع مناسيب دجلة والفرات. يختار صاحب المضيف جيرانه الأقربين بعناية فلا يبني مضيفه بين منَ لا يكنون له وداً. وعادة ما يقام المضيف متوازياً مع امتداد النهر على ان يكون بابه باتجاه القبلة دائماً كنوع من التبرك بهذا الاتجاه المقدّس. تُترك مسافة معقولة بين جانب المضيف وجرف النهر تُستغل كمكان للجلوس في عصاري الصيف الساخنة.

2ـ مرحلة الحفَر: وفيها يتم حفر صفين متوازيين من الحفر بقطر بروز (الشبّة) من سطح الأرض، وبعمق واحد
لا يزيد على المتر. تقع كل حفرة ازاء اختها تماماً، ويشير عددها في الصف الواحد الى عدد(شِباب) المضيف القادم.

3ـ مرحلة الغرس: يسمونها (الشجخ)، وفيها تغرس (الشِباب) مفصولة عن بعضها باتجاه معاكس قليلاً لفضاء المضيف، ثم يهيلون التراب على أسفل (الشبَّة) المغروس في الحفرة ثم يتولون عملية دك التراب (دَج) بأشياء ثقيلة مثل "الميجنة" والعمود.

4ـ مرحلة الحَني: وهي أشقّ عملية واكثرها تعقيداً لأنها تتولى إبراز هيكل المضيف ودقة استدارة سقفه ككل وموازنة إرتفاع كل (شَبَّة) مع التي قبلها والتي تليها. فأي خطأ في هذه العملية لا يكتشف في حينه ولا يمكن تجاوزه فيما بعد إلا بشقّ الأنفس لكونه من المراحل الاولية. يستخدمون لإنجاز عملية الحني سلماً قصبياً بسيطاً مكوناً من ثلاث دعائم يتسلقه أحدهم لكي يتولى عملية ربط طرفي (الشبَّة) السائبتين، يسمون هذا السلم (طِزَل).

5ـ مرحلة (التهطير): يتم فيها ربط مجموع (الشِباب) الى بعضها من خلال ما يشبه الجسور يسمونها (هُطر).
مفردها(هْطار) وهي عبارة عن حزم طويلة من القصب تسند على (الشِباب) من الخارج بواسطة الحبال بحيث أن أية حركة في أية (شبَّة) تنعكس على(الشِباب) كلها. تحدد زيادةُ أو نقصان ( الهطر) متانة المضيف.

6ـ التستير: وهي آخر مرحلة وفيها تتم عملية سدّ الفراغات الحاصلة بين(الشِباب) وبين (الهطر) بالقاء (البواري) متسلسلة بعضها فوق بعض. تكون (البواري) المستخدمة في هذه العملية بأبعاد كبيرة وتعّد خصيصاً لهذا الغرض يسمونها (النعماني) طمعاً بمسحة الجمال في تقليل الفواصل الكثيرة في حال استخدام (بواري) بأبعاد صغيرة.

تجدر الإشارة الى انهم يضعون (البواري) المقابلة لفضاء المضيف الداخلي مقلوبة لكي يواجه سطحها الأملس الجميل عين الرائي من الداخل ثم يتبعونها بطبقة اخرى من (البواري) وجهها نحو السماء ليواجه (ليطها) الباهت الصفرة أشعة الشمس فيردها متوهجة. تثبت (البواري) الى (الهطر) بواسطة حبال من قصب طري يفتلونها بعناية يسمونها (بنود)، يستخدمون لتمريرها عبر (البواري) آلة تشبه (المخّيط) لحفظها من الانقشاع في حالة الريح العاتية. هذه هي بايجاز خطوات بناء المضيف، وكما هو واضح انها بسيطة وتستعين بمواد أبسط ، الا أن النتائج ليست بسيطة على الإطلاق. ففضلا عن الجو المعتدل داخل المضيف صيفاً وشتاءً لان مادة القصب مادة عازلة بطبيعتها، يترك المضيف إنطباعاً مخادعاً بكبره واتساعه فيبدو اكبر مما هو عليه ربما لخلوه من الاثاث.

ويعطي التقاطع المتقن بين (الهطر) و(الشِباب) ـ التي تتدرج في طول قطرها من الأسفل حتى تستدق قبل ان تلتقي (بالشبَّة) التي تقابلها الى أقل مايمكن ـ احساساً نابضا بالحيوية والحركة، تؤججه أرضية عسلية من تقاطعات (الليط) الأملس اللانهائية، يستبيح عسليته السخام الأسود المتطاير من موقد القهوة الى أعلى نقطة مقوسة في الفضاء ليتدرج نزولاً في نسق لوني يسطع قليلاً الى ان يصل ذروته قرب الأرض. أما استدارة (الشِباب) التي تهتك ديمومة وجريان الجدران التي تأخذ نفس الإستدارة والتقبب ولكن باتجاه معاكس فكفيلة بطمس اي احساس بالملل كالذي نجده في البيوت التقليدية الموحشة في استقامة جدرانها وسقوفها وحيادية الوانها الميتة. وللضوء حصة في حسابات البناّء، فمنه التي يستدرجها الباب و(الروازين) وخروم (البواري) تبقيه ضوءاً شاحباً هو أقرب الى العتمة برغم الشمس الساطعة، وذلك طمعاً في التغاير الضوئي وضروراته، ودراية في الأثر الذي تثيره العتمة الشفيفة في النفس وبعث الهدوء فيها.


هذه هي المضايف، سحر البساطة وبساطة السحر في العفوية المحببة في بنائها وتلقائية البيئة التي انجبتها.