مسلسل الحلة في الذاكرة
د.عدنان الظاهر
نوفمبر 2007

مدينة الحلة في الذاكرة (1)
أهابَ بي أكثر من صديق وألحَّ عليَّ أن أكتب شيئاً عن أبرز معالم مدينتنا الحلة الفيحاء ، حلة بابل حمورابي ثم نوبخذ نُصّر . جالت بي الذكريات طولاً وعرضاً وقد كتبت ونشرت جانباً من تأريخ الحلة النقابي والسياسي زمن حكم عبد الكريم قاسم . وتحت ضغط الأصدقاء الأعزّاء عقدتُ عزمي أن أكتب ما رشح في ذاكرتي عن أمور أخرى لا علاقةَ لها بالسياسة ومعارك إنتخابات نقابة المعلمين . إستعرضتُ الحلة وشوارعها وعادات أهلها ومدارسها العتيقة التي تخرجت فيها آلاف ٌ مؤلفة من شتى الأجيال وساهمت في تشكيل وصياغة وجه الحلة على مدى ثلاثة عقود من القرن المنصرم : الأربعينيات فالخمسينيات ثم الستينيات . لا أعرف شيئاً عن الحلة في ثلاثينيات القرن الماضي ولا عنها فيما بعد عام 1962 حيث غادرتها والعراق للدراسة والبحث في جامعتي موسكو وكالفورنيا .
قررتُ أن أبرمج ذكرياتي وأخص في كل واحدة منها شأناً معيناً عايشه الحلاويون ممن هم من جيلي أو قريباً منه . وعليه فسأبدأ بمدارس الحلة خلال العقود الثلاثة آنفة الذكر .
أولاً : المدارس الإبتدائية

كانت في مطالع أربعينيات القرن الماضي في عموم مدينة الحلة ثلاث مدارس إبتدائية فقط قديمة تتنافس مع بعضها في أمور كثيرة وعلى رأسها عالم الرياضة ثم أسماء وشخصيات مديريها . المدرستان الأقدم هما الغربية الإبتدائية للبنين ثم الإبتدائية الشرقية للبنين تقعان في الجانب أو الصوب الكبير من مدينة الحلة . أما الثالثة فهي الفيحاء الإبتدائية للبنين وكانت تقع على ضفة نهر الفرات من الجانب أو الصوب الصغير لمدينة الحلة . لا أعرف مّن كان يدير المدرسة الإبتدائية الغربية والفيحاء أوائل أربعينيات القرن الماضي لكني أعرف من أدارهما بعد ذلك ولغاية سني الستينيات الأولى ولفترات طويلة . كان المربي الأستاذ قاسم خليل ( أبو أمين ) مديراً للغربية جاء بعده مباشرة ً في إدارتها الأستاذ الحلاوي ( حميد خليل ) ... وكان الأستاذ ( موسى الأعرجي ) مديراً للفيحاء . أما مدراء المدرسة الشرقية فقد عاصرتهم واحداً من تلامذة هذه المدرسة . كان أولهم المربي الفاضل السيد ( حسن الفلوجي / أبو تحسين ). خلفه الأستاذ ( عبد الحسين الشهيّب / شقيق شاعر ثورة العشرين الدكتور محمد مهدي البصير ) . جاء بعده وبقي لفترة طويلة المربي الرائع خُلقاً وأدباً وخلقة ً الأستاذ ( محسن ياسين ) . عاصرت الجميع مذ سنتي الثانية في المدرسة الشرقية حتى السنة السادسة [[ 1942 ـ 1948 ]] . كان الفلوجي مديراً صارماً مع بعض القسوة . أتذكر مرة ً إذْ كنا خلال إحدى الفرص بين حصة دراسية وأخرى فشاهدنا طائرة تحوم على إرتفاع منخفض فوق سماء الحلة فظللنا نراقبها وفاتنا سماع الجرس الخاص الذي يعلن إنتهاء الفرصة فرجعنا لصفوفنا متأخرين قليلاً . قامت قيامة مديرنا حسن الفلوجي فأمر بجمعنا في القاعة الداخلية للمدرسة التي تتوسط أربعة أو خمسة صفوف وهناك جاءنا يحمل ( خيزرانة ) ذات رأس مكوَّر يحمل لنا الرعب والخوف والويل . إصطففنا كما أمر المدير وبدأ يعاقبنا جميعاً بضربتين قاسيتين من خيزرانته واحدة في الكف الأيمن والأخرى في الكف الأيسر فبكى من شدة الألم من بكى وتحمل الضربات مَن تحمّل وتصبّر . كانت تبقى آثار الضربات في أكفنا لفترة طويلة ، خطوطاً حمراً مؤلمة .
في زمان أبي تحسين حدثت حادثة طريفة سببت أولاً حزناً عميقاً لدى أهل الحلة قاطبة ثم إنقلبت في نهاية المطاف إلى دعابة . نظمت إدارة المدرسة سفرة بإحدى السفن الشراعية الضخمة إلى قرية ( الدولاب ) القريبة من الحلة . أقلعت السفينة مع إتجاه مياه نهر الفرات بمن فيها تلامذة ومعلمين وكانت الأمور كافة ً طبيعية . فجأة ً , فجأة ً ... إنتشر خبر في المدينة كأنه النار في الهشيم مفاده أنَّ السفينة التي أقلت التلامذة قد غرقت وإبتلعتها مياه نهر الفرات . كارثة !! هُرعت الحلة عن بِكرة أبيها بإتجاه قرية الدولاب لإستطلاع مصداقية الخبر جرياً على الأقدام أو ركوباً على خيول أو في سيارات . بالقرب من هدف السفرة النهائي على مبعدة من قرية الدولاب رأى الراكضون والمفزعون أنَّ كل شئ على ما يرام ... السفينة تمخر عباب الفرات راسخةً مهيبة وقائدها (( النوخذة )) يتصدر دفتها الأمامية يحرك (( سكانها )) بثقة وتؤدة . آب َ للحلة أهلها الذين قتلهم الفزع على مصائر فلذات أكبادهم ... عادوا ليتحروا مصدر الشائعة الخبيثة اللئيمة فلم يعثروا له على أثر !! من كان مصدر الشائعة ؟ بعد الحادث مباشرةً نظمت إدارة المدرسة الشرقية حفلاً ترفيهياً عاماً على مسرح متوسطة الحلة للبنات حضرته جماهير الحلة نساءً ورجالاً إحتفالاً بسلامة أطفالهم . أتذكر أن بعض أناشيد الحفل كان قد قام بتلحينها معلم الموسيقى ( إلياهو منشّي ... ) وكان عازفاً ماهراً على آلة العود . أدت هذه الأناشيد فرقة من طلبة المدرسة الشرقية أتذكر من بينهم ( علي عبد الحسين علوش ) و ( مبدر جابر ) و ( حليم عبادة ) ولا تحضرني أسماء الآخرين . كما مثل بعض الطلبة تمثيلية هزلية ساخرة كان بطلها الكوميدي الطالب ( عَوجي ) ... لا أعرف إسم أبيه . مثل دور طبيب تزوره سيدة عجوز شاكيةً من مرض ألمَّ بها فيسألها كالمعتاد عما ألم َّ بها فتجيبه (( يمّه ، أصخ وأكحّن )) تقصد إنها تكح ولديها حرارة أو سخونة غير عادية . كانت تلك نكتة الحلة بلا منازع .
في تلك السنة ، العام الدراسي 1942 / 1943 كان أخي قحطان في الصف الخامس ومن بين مجموعته أتذكر كلاً من الأخوة : ممتاز كامل كريدي وشجاع علاء الدين القزويني وعلي عبد الحسين علوش وصفاء رزوقي المرعب وعبد الحسين علوان شلاش وإبن عمتي فخري هلال السريراتي وحليم منجي وعبد الهادي صالح الياسري [ أضاف الصديق الدكتور ممتاز كريدي تلفونياً إسم صادق حميد علوش إلى هذه المجموعة مشكوراً ] .
إنتقل الأستاذ عبد الحسن الفلوجي فحلَّ محله في إدارة الإبتدائية الشرقية الأستاذ عبد الحسين شهيب . أتذكر أبرز معلمي المدرسة في تلكم الحقبة كلاً من : محسن ياسين وفاهم غزالة ومعلم بصري إسمه ظافر وآخر حلاوي من آل وهيّب ثم مجيد عزيز وآخر غريب عن الحلة دائم السكر مريض العينين إسمه جلال يأتي الصف مخموراً ، يقفل الباب ويشرع بالتعرض للتلاميذ اليهود بنذالة وخسة . ثم إلتحق بالشرقية المربي الفاضل الفنان الأستاذ سلمان موسى الحمداني ( أبو صبيح ) مدرِّساً للرسم فكان حريصاً على إقامة المعارض الفنية كل عام وكان لا يكلُّ عن محاولات إكتشاف مواهب الرسم في طلابه وتشجيعهم على الإشتراك بلوحاتهم أثناء المعارض السنوية .
كان موقع الشرقية الإبتدائية موقعاً ممتازاً في وسط المدينة وعلى ضفة نهر الفرات تفصله عنه حديقة واسعة فيها الكثير من أشجار النخيل الباسقة لكننا كنا نشكو صيفاً من عفونة ماء الخزانات وما نجد فيه من دود وغير الدود . ثم قذارة بيوت الراحة ( المراحيض ) حتى أنَّ أحدنا كان يكتم حاجاته الطبيعية ويتعسف مع نفسه حتى يريح نفسه مما هو فيه في بيته بعد إنتهاء الدوام . مصيبة حقيقية .
لم تكنْ متوسطة الحلة ببعيدة عن الشرقية ، يتوسطهما مستوصف صحة الطلاب . أما من الجهة الغربية للمدرسة فكان هناك بيت كبير تملكه وتسكنه عائلة يهودية ، يقابل هذا البيت معمل المشروبات الغازية ( السيفون ) الشهير لصاحبه السيد ( محمد الناصر ) . وكان أشهر ( فرّاش ) في الشرقية هو السيد ( عليوي ) . كان في غاية الضبط فلا يسمح لأي ٍّ كان بمغادرة المدرسة إلا بإذن كتابي من لدن المدير . أما إذا تأخر أحدنا من الحضور إلى المدرسة في الصباحات الباكرة لبضع دقائق فويلٌ له من ( خيزرانة ) المدير .
مقابل الشرقية تماماً كان موقع قصر الشيخ عبد المحسن الجريان والد حاتم وعادل وثامر وعامر وصهر الوزير القديم السيد سلمان البرّاك . خدم في مدينة الحلة العديد من الأطباء السوريين واللبنانيين كما أدار بعضهم مستوصف صحة الطلاب وحتى ستينيات القرن الماضي كالطبيب اللبناني سامي شيخاني . أما الأطباء السوريون و اللبنانيون الآخرون فأذكر منهم : أمين الرفاعي ويوسف جبّوري وقصدي الشهّال و ماميش ومحمد محفوظ والد زوج صلاح الدين الصباغ الذي أُعدم بعد فشل إنتفاضة الجيش العراقي ضد المستعمر الإنجليزي في شهر مايس 1941 مع ثلاثة آخرين من رفاقه . العجيب أنَّ أغلبَ مَن يأتي الحلة َ من هؤلاء الأطباء يمكث ويقيم فيها ولا يبرحها ، بل وأنَّ بعضهم إكتسب الجنسية العراقية مثل يوسف جبوري وأمين الرفاعي ( بالزواج من سيدة عراقية من أهالي العمارة ) وسامي شيخاني .

__________________